المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

212- وإنّ السبب في الانحراف والكفر هو طلب الدنيا ، فقد زين للذين كفروا شهوات الحياة الدنيا فمضوا يسخرون من الذين آمنوا لانشغالهم بالحياة الآخرة ، والله جاعل الذين آمنوا أعلى مكاناً منهم في الآخرة . فأما توفر المال وزينة الحياة الدنيا لدى الكفار فلا تدل على أفضليتهم ، لأن رزق الله لا يُقدَّر على حساب الإيمان والكفر بل يجرى تبعاً لمشيئته ، فمن الناس من يزاد له في الرزق استدراجاً ومنهم من يقتر عليه اختباراً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال - تعالى - : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } .

. . الآية .

التزيين : جعل الشيء زينا أي ، شديد الحسن . والحياة نائب فاعل ، زين ، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازي التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل .

والمعنى ، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم ، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها .

قال القرطبي : والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً للشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لهاليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها " .

وقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين } معطوف على جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } .

أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون وتكون الواو للحال .

ويسخرون : يضحكون ويهزأون . يقال . سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به .

أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة ، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها ، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم ، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا .

وجيء بقوله : { زُيِّنَ } ماضيا للدالة على أنه قد وقع وفرغ منه . وجيء بقوله { وَيَسْخَرُونَ } مضارعاً للدالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . . . } وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية رويات منها : أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وحزبه ، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم . ومنها . أنها نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخاببا وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء . والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين .

وقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } رد منه - سبحانه - على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين ، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها .

أي ، والذين اتقوا الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة ، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين ، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلأى النار وبئس القرار .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

وقيدت الفوقية بيوم القيامة للننصيص على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية ، ولإِدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا .

وقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تذييل قصد به تشريف المؤمنين ، وبيان عظم ثوابهم .

أي : والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق . أو بلا حصر وعد لما يعطيه . أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها . فهو - سبحانه - الذي يعطي ويمنع ، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطي فقد يعطي الكافر وهو غير راض عنه ، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه .

قال الأستاذ الإِمام : إن الرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد ، فإنك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقى يكون دائماً أسعد حالاً وأكثر احتمالا ، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلمه الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجاً من كل ضيق . . . وأما الأمم فأمرها على غير هذا ، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه . . وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل ، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

204

وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة ، والتبديل بعد النعمة ، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا ؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص :

( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ، ويسخرون من الذين آمنوا ، والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا ؛ بأعراضها الزهيدة ، واهتماماتها الصغيرة . زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ؛ ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها . والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن ، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة . . إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها ؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة ، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها ، وإنشائه للعمران والحضارة ، وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الاعراض وأغلى . ينشد منها أن يقر في الأرض منهجا ، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل ، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس ، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع ، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود ، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف ، وضخامة الاهتمام ، وشمول النظرة .

وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض ، المستعبدون لأهداف الأرض . . ينظرون للذين آمنوا ، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ، ومتاعهم الزهيد ؛ ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصهم وحدهم ، ولكن تخص البشرية كلها ؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات ؛ ويقاسون فيها المتاعب ؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة . . ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا - في هذه الحال - فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا . عندئذ يسخرون منهم . يسخرون من حالهم ، ويسخرون من تصوراتهم ، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه !

( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا . . . ) . .

ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان . . إنه ميزان الأرض . ميزان الكفر . ميزان الجاهلية . . أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه . والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه :

( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ) . .

هذا هو ميزان الحق في يد الله . فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان . وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء ، وسخرية الساخرين ، وقيم الكافرين . . إنهم فوقهم يوم القيامة . فوقهم عند الحساب الختامي الأخير . فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين .

والله يدخر لهم ما هو خير ، وما هو أوسع من الرزق . يهبهم إياه حيث يختار ؛ في الدنيا أو في الآخرة ، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير :

( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء ، ويفيض على من يشاء . لا خازن لعطائه ولا بواب ! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه ، وليس لهم فيما أعطوا فضل . وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة . . فالعطاء كله من عنده . واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى . .

وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس . . تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله ؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض ، واهتمامات الصغار ؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم ؛ ويصبحون سادة للحياة ، لا عبيدا للحياة . . كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر : الذين زينت لهم الحياة الدنيا ، واستعبدتهم أعراضها وقيمها ؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون !

وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين ؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض . على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون ، وأن المؤمنين هم المحرومون ؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة . وهم أحق بالرثاء والإشفاق . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، ويدل عليه قراءة { زين } على البناء للفاعل ، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض .

{ ويسخرون من الذين آمنوا } يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب ، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين ، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى . { والله يرزق من يشاء } في الدارين . { بغير حساب } بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 )

وقوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر( {[1969]} ) ، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زَيَن » على بناء الفعل للفاعل( {[1970]} ) ونصب «الحياة » ، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت » بإظهار العلامة ، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي( {[1971]} ) ، وخص الذين كفروا بالذكر بقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها ، والتزيين من الله تعالى واقع للكل ، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم( {[1972]} ) لأنهم لا يعتقدون غيرها ، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا » .

وقوله تعالى : { ويسخرون } إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم ، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله : { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر( {[1973]} ) فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب ، كما قال تعالى :

{ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً }( {[1974]} ) [ الفرقان : 24 ] ، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم ، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا ، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك( {[1975]} ) ، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين ، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وتحتمل الآيتان( {[1976]} ) أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ، فإنهم كانوا يقولون : وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل( {[1977]} ) ، وهذا كله من التحميلات( {[1978]} ) حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك .

وقوله تعالى : { والله يزرق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق ، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب ، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب ، حيث هو دائم لا يتناهى ، فهو لا ينفد ، ويحتمل أن يكون { بغير حساب } صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف ، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد ، ففضله كله بغير حساب ، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب( {[1979]} ) هذا الذي يشاؤه الله ، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال تعالى : { ويرزقه من حيث لا يحتسب }( {[1980]} ) [ الطلاق : 3 ] ، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى : { عطاء حساباً } [ النبأ : 36 ] ، فالمعنى في ذلك محسباً( {[1981]} ) ، ، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادَّة( {[1982]} ) وغير الحساب في التفضل والإنعام .


[1969]:- ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى وضع في النفوس محبة الدنيا والرغبة فيها، إلا أن المؤمن يتوسط، وغيره يتجاوز الحد ويشْتطّ، ثم إن إسناد التزيين إلى الله حقيقة، وإلى غير الله مجاز، ومن الناس من يعكس الأمر كالزمخشري عافانا الله جميعا.
[1970]:- والفاعل هو الله تعالى، وقد تقدم ذكره في قوله: [فإن الله شديد العقاب].
[1971]:- وعدم وجود حائل مع كون التأنيث حقيقيا شرطان لازمان لوجوب التأنيث.
[1972]:- أي فتنتهم وسيطرت عليهم.
[1973]:- فهم في الجنة والكفار في النار. وهذا فضل عظيم، ودرجة عالية تقابلها درجة سفلى، ولصاحب كل درجة قدره.
[1974]:- قال (ح) رحمه الله: (فوق) لا تدل على التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلو، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أُضيفت إليه فيه علو، كما أن مقابلها وهو (تحت) لا يدل على تشريك في السفلية، ولا نقول إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل، يدل على ذلك استعمالها بمن في قوله تعالى: [والرَّكب أسفل منكم] كما أن أعلى كذلك، انتهى. ومفهوم هذا الكلام أن منهم من جعل (فوق) مرادفة لأفعل التفضيل، أي (أعلى)، ومنهم من لم يجعلها بمعنى اسم التفضيل وإنما تدل على مجرد العلو. والله أعلم. وقوله تعالى: (أصحاب الجنّة) من الآية (24) من سورة (الفرقان).
[1975]:- أي التنعيم في الدنيا والتنعيم في الأخرى.
[1976]:- هما: [والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة] [أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا].
[1977]:- ذكر ابن عطية في معنى التفضيل هنا أربعة آراء. أولها: أن التفضيل في الدرجة والقدر. ويكفي أن المتقين في نعيم الجنة وأن الكفار في عذاب النار. ثانيها: أن التفضيل بين نعيم الآخرة الذي يعيش فيه المتقون يوم القيامة، ونعيم الدنيا الذي يعيش فيه الكفار فيها. ثالثها: أن الفوقية من حيث كون الجنة في السماء والنار في أسفل سافلين. رابعها: أن التفضيل والفوقية من حيث زعم الكفار أن ذلك لهم في الدنيا وفي الأخرى.
[1978]:- أي التأويلات، والمعنى أنهم حملوا الآية هذه التحميلات حفاظا على مذهب سيبويه والخليل وأن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، وهذا من ابن عطية رحمه الله ذهاب إلى أن (فوق) مرادفة (لأفعل التفضيل)، وقد قدمنا عن أبي (ح) أنها لمجرد العلو بقطع النظر عن الاشتراك، وأن معنى (فوق) غير معنى (أفعل)، وتأمل، وقال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في "الجواهر الحسان" – وهو مختصر ابن عطية في تفسير القرآن - «فإن تشوقت نفسك أيها الأخ إلى هذه الفوقية ونيل هذه الدرجة العالية، فارفض دنياك الدنية، وازهد فيها بالكلية، لتسلم من كل آفة وبلية، واقتد في ذلك بخير البرية»، انتهى. ومجمل القول في الدنيا انها آفة الخلق، في الانقطاع عن الحق.
[1979]:- أي من حيث لا يظن ولا يشعر كما قال تعالى: [وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون].
[1980]:- من الآية (3) من سورة (الطلاق).
[1981]:- أي كافيا، من أحسبه بمعنى أرضاه حتى قال حسبي، لا من حَسَبه بمعنى عدّه.
[1982]:- أي في الجزاء المقابل للعمل حساب، وفي التفضل والإنعام المحض لا حساب.