المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

264- لا تضيعوا ثواب صدقاتكم - أيها المؤمنون - بإظهار فضلكم على المحتاجين وإيذائهم فتكونوا كالذين ينفقون أموالهم بدافع الرغبة في الشهرة وحب الثناء من الناس ، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، فإن حال المرائي في نفقته كحال حجر أملس عليه تراب ، هطل عليه مطر شديد فأزال ما عليه من تراب . . فكما أن المطر الغزير يزيل التراب الخصب المنتج من الحجر الأملس ، فكذلك المن والأذى والرياء تبطل ثواب الصدقات . . فلا ينتفع المنتفعون بشيء منها ، وتلك صفات الكفار فتجنبوها ، لأن الله لا يوفق الكافرين إلى الخير والإرشاد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

وقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } نداء منه - سبحانه - للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى ، لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله - تعالى - وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء في الحديث الشريف : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويحق الأجر " .

والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها ، وتمحقوا ثمارها ، بسبب المن والأذى ، فيكون مثلكم في هذا الإِبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام ، كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك ولا يبغي به رضاء الله ولا ثواب الآخرة ، لأنه كفر بالله ، وكفر بحساب الآخرة .

وفي هذا التشبيه تنفير شديد من المن والأذى لأنه - سبحانه - شبه حال المتصدق المتصف بهما في إبطال علمه بسببها بحال هذا المنافق المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر .

وقوله : { كالذي } الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي : لا تبطلوها إبطالا كابطال الذي ينفق ماله رئاء الناس . . . أو في محل نصب على الحال من فاعل { تُبْطِلُواْ } أي لا تبطلوا مشابهين الذي ينفق ماله رئاء الناس .

وقوله : { رِئَآءَ } منصوب على أنه مفعول لأجله أي : كالذي ينفق ماله من أجل رئاء الناس .

وأما المثال الثاني فقال - سبحانه - : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } .

{ صَفْوَانٍ } اسم جنس جمعي واحد صفوانه كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس ، مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشء مما يشوبه . يقال : يوم صفوان أي صافي الشمس . وقيل هو مفرد كحجر . و ( الوابل ) المطر الشديد . يقال : وبلت السماء تبل وبلا ووبولا . اشتد مطرها ( الصلد ) هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه . ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعراً ، والأصلد الأجرد الذي لا ينبت شيئاً مأخوذ من صلد يصلد صلدا فهو صلد .

والمعنى : يأيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله ، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحباً للهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئاً ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب ، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أي شيء عليه .

فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قد رقيقه من التراب ستر حاله ، ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائي عارياً من أي شيء يستره . وكذلك المنافق المرائي في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث أن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائماً عما تحته ، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه .

ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس ، وأن الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى . فيكون المعنى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والّى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتاً للزرع فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه ، فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرها النافع ، كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإِنبات من فوق الحجر الأملس .

والذي نراه أن عودة الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ } على الذي ينفق ماله رثاء الناس أظهر لأنه أقرب مذكور ، ولأن التشبيه في قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذي ينفق ماله رئاء الناس لأنه مفرد مثله ، بخلاف قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } فإن الضمير فيه بلفظ الجمع ، فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ } إلى المرائي لتوافقهما في الأفراد .

ثم قال - تعالى - : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى ، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومن أذى محق بركتها ، وأذهب ثمرتها ، وأزال ثوابها .

أو المعنى : أو أولئك المنانين والمرائين ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي أنعم به عليهم ، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة ، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة ، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه - سبحانه - .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } أي لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإِيمان .

والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيها إشارة إلى أن الإِنفاق المصحوب بالمن والأذى والرياء ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الكافرين ، فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذه الصفات التي لا يليق بهم .

والذي ينظر في هذه الآيات الكريمة يرى أن الله - تعالى - قد حذر المنفقين من المن والأذى في ثلاث آيات متواليات ، كما حذرهم من الرياء ، وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التي لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد في النهي ؟

والجواب عن ذلك : أن المن والأذى في الإِنفاق كثيراً ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب ، أو رغبة في إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف : وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة ، ولا يتلاقى مطلقا مع الحكم التي من أجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تننافراً تاماً لأن الصدقات شرعها الله لتهذيب النفوس وتطهير القلوب ولتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإخاء ، فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له ، لأنها تثير في نفس المعطى بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات الذميمة ، وتثير في نفس الآخذ شعوراً بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط ، ويتمزق المجتمع ، ويتحول المحبة إلى عداوة .

ولقد تحدث الإِمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه :

وإنما كان المن مذموماً لوجوه :

الأول : أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار الإِنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة ، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه .

والثاني : أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريق ذلك .

الثالث : أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله - تعالى - عليه - وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الأمر كذلك امتنع عن أن يجعل ما ينفقه منه على الغير .

الرابع : أن المعطي في الحقيقة هو الله ، ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قلبه ، أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول ، وعن الآثار إلى المؤثر . . . وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسيئ إلى الفقير بأن يقول له : فرج الله عني منك ، وأنت أبدا تأتي بما يؤلم . إلخ .

هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عدداً من الأحاديث الشريفة التي نهت عن المن والأذى ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منّان " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

261

وعندما يصل التأثر الوجداني غايته . . بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى ، وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة ، وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى . . عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك ، يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى . ويرسم لهم مشهدا عجيبا - أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول . مشهد الزرع والنماء . ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله ، والإنفاق المشوب بالمن والأذى . على طريقة التصوير الفني في القرآن ، التي تعرض المعنى صورة ، والأثر حركة ، والحالة مشهدا شاخصا للخيال :

( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، كالذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فمثله كمثل صفوان عليه تراب ، فأصابه وابل ، فتركه صلدا ؛ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ، والله لا يهدي القوم الكافرين . ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة . أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ؛ فإن لم يصبها وابل فطل ، والله بما تعملون بصير ) . .

هذا هو المشهد الأول . .

مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة . وفي كل منظر جزئيات ، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض ؛ ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها .

نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد :

( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) . .

فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته . ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء .

هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله ( صفوان عليه تراب )حجر لا خصب فيه ولا ليونة ، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين ، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان . .

( فأصابه وابل فتركه صلدا ) . .

وذهب المطر الغزير بالتراب القليل ! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته ، ولم ينبت زرعه ، ولم يثمر ثمرة . . كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس ، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة !

/خ274

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما . { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة ، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس ، والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال ، و{ رئاء } نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق { رئاء } . { فمثله } أي فمثل المرائي في إنفاقه . { كمثل صفوان } كمثل حجر أملس . { عليه تراب فأصابه وابل } مطر عظيم القطر . { فتركه صلدا } أملس نقيا من التراب . { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا ، والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس ، أو الجمع كما في قوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد

{ والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } الآية ، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات( {[2584]} ) ، فقال جمهور العلماء في هذه الآية : إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة ، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها( {[2585]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل( {[2586]} ) ، فلم تترتب له صدقة ، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى ، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها ، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها ، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي { ينفق رئاء } لا لوجه الله ، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية . كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس . قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء ، وقوله تعالى : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر( {[2587]} ) ، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك . ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان . ثم مثل هذا المنفق رئاء ب { صفوان عليه تراب } فيظنه الظانُّ أرضاً منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى ، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلداً ، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى . فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية . فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن أرضاً . وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس » بغير همز .

ورويت عن عاصم . والصفوان الحجر الكبير الأملس . قيل هو جمع واحدته صفوانة . وقال قوم واحدته صفواة ، وقيل هو إفراد وجمعه صفى ، وأنكره المبرد( {[2588]} ) وقال : إنما هو جمع صفا ، ومن هذا المعنى الصفواء( {[2589]} ) والصفا . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

كميت يزل اللبد عن حال متنه . . . كما زلت الصفواء بالمتنزل( {[2590]} )

وقال أبو ذؤيب : [ الكامل ]

حتى كأني للحوادث مروة . . . بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تقرع( {[2591]} )

وقرأ الزهري وابن المسيب «صفَوان » بفتح الفاء ، وهي لغة ، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض ، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه ، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه ، ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]

بَرَّاق أصْلادِ الْجَبينِ الأجْلَهِ . . . ( {[2592]} ) قال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل ، وقوله تعالى : { لا يقدرون } يريد به الذين ينفقون رئاء ، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم ، وجاءت العبارة ب { يقدرون } على معنى الذي . وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي ، وهذا هو مهيع( {[2593]} ) كلام العرب ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ ، وقوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الكافرين } إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر ، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض ، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر ، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسيره إبطال المن والأذى للصدقة .


[2584]:- أي خلافا للمعتزلة، وقد تمسكوا بمثل هذه الآية، والجواب عن ذلك أن الآية هي في الصدقة التي يعلم الله أنها غير مقبولة بسبب ما يكون من المن والأذى فيها، لا في الصدقة التي وقعت على وجه صحيح مقبول، فإن المن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، قال الإمام النووي في شرح "المهذب": «يحرم المن بالصدقة، فلو منَّ بها بطل ثوابه للآية الكريمة، واستشكل ذلك ابن عطية بأن العقيدة أن السسيئات لا تبطل الحسنات، وقال غيره: تمسك المعتزلة بهذه الآية في أصلهم، أي أن السيئة تبطل الحسنة، واستنبط العلم العراقي من هذه الآية دليلا لقاعدة أن المانع الطارئ كالمقارن لأنه تعالى جعل طريان المن والأذى بعد الصدقة كمقارنة الرياء لها في الابتداء، قال: ثم إن الله ضرب مثالين أحدهما للمقارن المبطل في الابتداء بقوله: [فمثله كمثل صفوان] الآية، فهذا فيه أن الوابل الذي نزل قارنه الصفوان وهو الحجر الصلد وعليه التراب اليسير – فأذهبه الوابل فلم يبق محل يقبل النبات وينتفع بهذا الوابل، فكذلك الرياء وعدم الإيمان إذا قارن إنفاق المال، والثاني الطارئ في الدوام وأنه يفسد الشيء من أصله بقوله: [أيود أحدكم] الآية، فمعناها أن هذه الجنة لما تعطل النفع بالاحتراق عند كبر صاحبها وضعفه وضعف ذريته فهو أحوج ما يكون إليها يوم فقره وفاقته، فكذلك طريان المن والأذى يحبطان أجر المتصدق أحوج ما يكون إليه يوم فقره وفاقته». انتهى من "الإكليل". للسيوطي، وتأمل.
[2585]:- أي لا تكتب ولا تثاب.
[2586]:- أي في شرح قوله تعالى: [الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى] حيث قال: المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه. الخ. تنبيهان: التنبيه الأول: قال الفضيل بن عياض: أحسن العمل أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة، وهذا هو قوله تعالى: [الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا] [إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا]. فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، وجاريا على مقتضى أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على صاحبه، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلّ عمل ليس عليه أمرنا فهو رد). فالله إنما يعبد بأمره، ولا يعبد بالجهل، ولا بالآراء والأهواء. التنبيه الثاني: قال الله تعالى: [يمنّون عليك أن أسلموا، قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين]، فالمنة لله على عباده، وهم إنما يتقبلون في بحر مِنَنه ونعمه، ومحض صدقته عليهم بلا عوض منه البتة، وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده، فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب، وهداهم لها، وأعانهم عليها، وقبلها منهم على ما فيها، فإن العبد ناقص، والناقص لا يستطيع أن يقوم بحق الكامل على وجه التام. وإلى هذه السببية المشروعة أشار سبحانه بقوله: [ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون]. ومن هنا كان احتمالك منّة المخلوق نقصا لأنه نظيرك. فإذا منّ عليه استعلى عليه، ورأى الممنون عليه دونه، ومع هذا فليس ذلك في كل مخلوق، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنَّة على أمته، وقد كان أصحابه رضوان الله عليهم يقولون: «الله ورسوله أَمَنُّ» وكذلك لا نقص في منَّة الوالد على ولده، ولا عار عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم للولد: (أنت ومالك لأبيك). وقال أيضا وقد سئل صلى الله عليه وسلم: ما حق الوالدين على الولد ؟: (هما جنتك ونارك). وكذلك منَّة السيد على عبده، وإذا كان هذا حال بعض المخلوقين فكيف برب العالمين الذي أسبغ النعم ظاهرة وباطنة: نعمة الإيجاد والإمداد ونعمة الهداية والتوفيق، ونعمة الرعاية والعناية، فأعمالنا ليست سببا لمننه ونعمه، ولا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده، وأوقعها على أكمل الوجوه، أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه. فلذلك لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نفى دخول الجنة بالعمل، حين قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). ولا تنافي بين الحديث والآية، إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها، والمثبت هو أن حكمة الله اقتضت أن يكون العمل سببا للدلالة على مجرد الطاعة والامتثال، وإن كان العمل قليلا وضئيلا بالنسبة للجنة. أفاده ابن القيم رحمه الله.
[2587]:- يؤيده قوله تعالى: [والله لا يهدي القوم الكافرين]، ورجح مكي أن المراد بالمنفق المرائي المنافق، واقتصر عليه الزمخشري، وذلك أن الرياء من فعل المنافق الساتر لكفره، وأما الكافر فهو مباه بعمله ومجاهر بكفره ومناصب للدين، والله أعلم.
[2588]:- وقال: إنما صفي جمع صَفَا، كقفا وقفي، والحاصل أن الصفا جمع صفاة، والصفي جمع الصَّفا فهو جمع الجمع.
[2589]:- الصفواء: الصفاة، والصفوانة: الصفاة أيضا جمعا صفْوان بسكون الفاء وفتحها.
[2590]:- أي كما يزل النازل على الصخرة الملساء، ويقال: كمُتَ الفرس: كان لونه بين الأسود والأحمر: والمتن: الظهر (يذكر ويؤنث).
[2591]:- راجع تفسير قوله تعالى: [إن الصفا والمروة من شعائر الله]: والمشقر: حصن قديم.
[2592]:- البيت بتمامه: لَمَّـا رأتْنِي خلق المُمَــوَّهِ بَرَّقَ أصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَـهِ المموَّه: المزيَّن بماء الشباب، والأصلاد: جمع صَلْد والصَّلد: هو الصُّلْب الأمْلس الشديد، والصخرة العريضة الملساء، ويقال: رأس أو جلد صَلْد: لا يُنبت شعرا – ويقال: جَلِهَ جَلَها: ضخمت جبهته، وتأخرت منابت شعر رأسه، وانحسر عن مقدم رأسه فهو أجْله وهي جلهاء.
[2593]:- المهيع من الطرق: البيِّن، وجمعه: مهايع.