ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يجابه هؤلاء الظالمين بما جبلوا عليه من بخل وشح ، بعد أن طلبوا منه ما طلبوا من مقترحات متعنتة ، فقال - تعالى - : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً }
والمراد بخزائن رحمة ربى : أرزاقه التى وزعها على عباده ، ونعمه التى أنعم بها عليهم .
و { قتورًا } من التقتير بمعنى البخل . يقال : قتر فلان يقتر - بضم التاء وكسرها - إذا بالغ فى الإِمساك والشح .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك ، وطالبوك بما ليس فى وسعك من تفجير الأرض بالأنهار ، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة ، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت : لو أنكم تملكون - أيها الناس - التصرف فى خزائن الأرزاق التى وزعها الله على خلقه ، إذًا لبخلتم وأمسكتم فى توزيعها عليهم ، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم فى العطاء ، مع أن خزائن الله لا تنفد أبدًا ، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك .
قال بعضهم : قوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } فيه وجهان : أحدهما : أن المسألة من باب الاشتغال . فأنتم مرفوع بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر ، لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرا . فهى كإن فى قوله - تعالى - : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه - والثانى : أنه مرفوع بكان ، وقد كثر حذفها بعد لو ، والتقدير : لو كنتم تملكون . . . .
والمقصود بالإِمساك هنا : إمساكهم عن العطاء فى الدنيا ، وهذا لا ينافى قوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ . . . } لأن ذلك حكاية عن أحوالهم فى الآخرة عندما يرون العذاب ، ويتمنون أن يفتدوا أنفسهم منه بأى شئ .
وقوله { إذًا } ظرف لتملكون . وقوله { لأمسكتم } جواب لو ، وقوله { خشية الإِنفاق } علة للإِمساك والبخل .
وقوله : { وَكَانَ الإنسان قَتُوراً } أى : مبالغًا فى البخل والإِمساك .
قال الإِمام ابن كثير : والله - تعالى - يصف الإِنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال - تعالى - :
على أن أولئك الذين يقترحون على الرسول [ ص ] تلك المقترحات المتعنتة ، من بيوت الزخرف ، وجنات النخيل والأعناب ، والينابيع المتفجرة . . بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفا من نفادها ، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض :
( قل : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) .
وهي صورة بالغة للشح ، فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، ولا يخشى نفادها ولا نقصها . ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها !
يقول تعالى لرسوله صلوات الله عليه وسلامه{[17866]} قل لهم يا محمد : لو أنكم - أيها الناس - تملكون التصرف في خزائن الله ، لأمسكتم خشية الإنفاق .
قال ابن عباس ، وقتادة : أي الفقر أي : خشية أن تذهبوها{[17867]} ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا ؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ؛ ولهذا قال : ( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال ابن عباس ، وقتادة{[17868]} : أي بخيلا منوعًا . وقال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [ النساء : 53 ] أي : لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا ، ولا مقدار نقير ، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وهداه ؛ فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] . ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ، ويدل هذا على كرمه{[17869]} وجوده وإحسانه ، وقد جاء في الصحيحين : " يد الله ملأى لا يَغيضُها نفقة ، سَحَّاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يَغض ما في يمينه " {[17870]} .
اعتراض ناشىء عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلاً على انتفاء إرسال بَشيرٍ ، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم . وهذا رد لما تضمنه قولهم : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله : { تفجيراً } [ الإسراء : 90 - 91 ] ، وقولهم : { أو يكون لك بيت من زخرف } [ الإسراء : 93 ] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته .
ومعنى الرد : أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم .
وأدمج في هذا الرد بيانُ ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير . وأدمج في ذلك أيضاً تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها . ويصلح لأن يكون هذا خطاباً للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه .
وشأن ( لو ) أن يليها الفعل ماضياً في الأكثر أو مضارعاً في اعتبارات ، فهي مختصة بالدخول على الأفعال ، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصدٍ بليغ : إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرةً ثانية تأكيدٌ وتقويةٌ ؛ مثل قوله : { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص ، بناءً على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لمقصد طريققٍ غير مطروق . وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ ، ومنه قول عُمر لأبي عبيدة لَوْ غيرُك قالها .
والمعنى : لو أنتم اختصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لَما أنفقتم على الفقراء شيئاً . وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم .
وكلا الاعتبارين لا يُنَاكد اختصاص ( لو ) بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حَيزها غيرَ مُوال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي ، ولكن لا يجوز أن يقال : لو أنت عالم لبذذت الأقران .
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل .
و{ أمسكتم } هُنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، لأن المقصود : إذن لاتصفتم بالإمساك ، أي البخل . يقال : فلان مُمسك ، أي بخيل . ولا يراد أنه ممسك شيئاً معيناً .
وأكد جواب ( لو ) بزيادة حرف ( إذن ) فيه لتقوية معنى الجوابية ، ولأن في ( إذن ) معنى الجزاء كما تقدم آنفاً عند قوله : { قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] . ومنه قول بشر بن عَوانة :
أفاطم لو شهدت ببطن خَبْتٍ *** وقد لاقَى الهزبرُ أخاككِ بِشرَا
إذن لرأيتتِ لَيْثا أمَّ لَيثـــا *** هِزَبْرا أغلباً لاقَى هِزبــرا
وجملة { وكان الإنسان قتوراً } حالية أو اعتراضية في آخر الكلام ، وهي تفيد تذييلاً لأنها عامةُ الحكم . فالواو فيها ليست عاطفة .
والقتور : الشديد البخل ، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق .