28- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك ، ويعز ويذل ، وبيده وحده الخير والخلق والرزق ، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله ، وإضعافاً للولاية الإسلامية ، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء ، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك ، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم . وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله ، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة . وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة .
وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك ، وأنه على كل شيء قدير ، عقب ذلك بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما ، فقال - تعالى- : { لاَّ يَتَّخِذِ . . . ) .
أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات :
منها أن جماعة من اليهود كانوا يصادقون جماعة من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيشمة لأولئك النفر من الأنصار : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا ملازمتهم ومباطنتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية " .
وقوله { أَوْلِيَآءَ } جمع ولي ، والولاء والتوالى - كما يقول الراغب : أن يحصل شيئان فصاعداً حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حين النسبة ومن حين الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد .
والولاية - بكسر الواو - النصرة والولاية - تولى الأمر ، وقيل هما بمعنى واحد " .
و " لا " ناهية . والفعل " يتخذ " مجزوم بها ، وهو متعد لمفعولين :
والمعنى : لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء ، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك .
وقد ورد مثل هذا النهي فى كثير من الآيات ومن ذلك قوله - تعالى - { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } وقوله- تعالى- { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال الألوسي : وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من الفاعل ، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والَوْا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع . أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون ، وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار " .
قالوا : والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم ، وأما ما عدا ذلك كالنجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي ، لأنها ليس معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين " .
وكرر - سبحانه - لفظ " المؤمنين " بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول ، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء ، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدونهم نهاية لها .
ثم قال - تعالى - { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أى : ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين ، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته لله ، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر .
فاسم الإشاراة { ذلك } يعود على الاتخاذ المفهوم من الفعل يتخذ ؟
والتنوين في { شَيْءٍ } للتحقير أى ليس في شىء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية ، لأن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان كما قال الشاعر :
تود عدوى ثم تزعم أنني . . . صديقك ليس النوك عنك بعازب
و " من " شرطية ، و { يَفْعَلْ } فعل الشرط ، وجوابه " فليس من الله في شيء " واسم ليس ضمير يعود على " من " وقوله { فِي شَيْءٍ } خبرها . أى فليس الموالى في شيء كائن من الله - تعالى - والجملة معترضى بين المستثى والمستثنى منه .
وقال - سبحانه - { فَلَيْسَ مِنَ الله } ولم يقل " فليس من ولاية الله " للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله - تعالى - وكان مؤثرا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبال ، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه ، ثم استثنى - سبحانه - من أحوال النهى حال التقية فقال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } وقوله : { تَتَّقُواْ } من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه ، وعدى بمن لتضمينه معنى تخافوا { تُقَاةً } مصدر تقيته - كرميته - بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على تقى : كرطبة ورطب . وأصل تقاة : وقية من الوقاية . فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال ، والتقدير : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين أولياء في أى حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم منهم أى إلا أن تخافوا منهم مخافة . أو إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض .
كأن يكون الكفار غالبين ظاهرين . أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان ، على ألا تنطوى قلوبكم على شيء من مودتهم ، بل دارونهم وأنتم لهم كارهون . وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخمر ، أو إطلاعهم على عورات المسلمين أو الانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين ، وإذن فلا رخصة إلا في المداراة باللسان . ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال - تعالى - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .
والتحذير : هو التخويف لأجل الحذر واليقظة ، من أن يقع الإنسان في قول أو عمل منهى عنه .
ونفسه : منصوب على نزع الخافض . والمصير : المرجع والمآب .
أى : ويحذركم الله - تعالى - من نفسه أى من عقابه وانتقامه ، وإليه - سبحانه - مرجعكم ومصيركم فيحاسبكم على أعمالكم .
وقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين ، لأن التحذير من ذات الله ، يقتضى الخوف ووقع الرهبة في النفس من الذات العلية ، وذلك كما يقال : - والله المثل الأعلى - احذر الأسد ، فإن هذا القائل يريد أن ذات الأسد في كل أحوالها موهوبة ، ولأن كلمة " نفس " تقال لتأكيد التعبير عن الذات .
أى أن التحذير قد جاءكم من الله - تعالى - لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمره ، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد .
وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقون فاحذروا التعرض لعقابه ، وقوله { وَإِلَيَّ المصير } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه . هذا ، ولبعض العلماء كلام طويل عن التقية - وهى أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن مخافة الأذى الشديد - فقد قال الآلوسى ما ملخصه :
" وفي الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرفوها بالمحافظة على النفس أو العرض من شر الأعداء . .
الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم .
والثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين :
أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له فيه أن يظهر دينه لتعرض المخالفين له بالعداوة فإنه يجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه أن يظهر دينه ، إلا إذا كان ممن لهم عذر شرعي كالنساء والصبيان والعجزة فقد قال تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } وإذا كان التخويف بالقتل ونحوه جاز له المكث والموافقة لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعى في حيلة للخروج والفرار بدينه .
والموافقة لهم حينئذ رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة فلو مات مات شهيداً بدليل ما روي من أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : " أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، نعم ، نعم فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . ثم دعا الثاني فقال له أتشهد أني رسول الله ؟ قال إنى أصم ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه فهنيئا له . وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه " .
وأما القسم الثانى وهو من كانت عداواته بسبب المال والإمارة وما إلى ذلك ، فقد اختلف فى وجوب هجرة صاحبه ، فقال بعضهم تجب لأن الله قد نهى عن إضاعة المال . وقال آخرون لا تجب ، لأنها لمصلحة دنيوية ولا يعود على من تركها نقصان في الدين .
وعد قوم من باب التقية الجائزة مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم - بشرط أن لا تكون هذه المدارة مخالفة لأصول الدين وتعاليمه - فإن كانت مخالفة لذلك فلا تجوز .
روى البخاري عن عائشة قالت : " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة ، ثم أذن له فألان له القول ، فقلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال : " يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه " إلى غير ذلك من الأحاديث . لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ، ويرتكب المنكر ، وتسيء الظنون .
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله ، المتضمن لمنهج الله للبشر ، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر . . وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين . ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول . والأمر كله بيد الله . وهو ولي المؤمنين دون سواه :
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل : إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا . ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) . .
لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله ، والقوة كلها لله ، والتدبير كله لله ، والرزق كله بيد الله . . فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله ؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون . . ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة ، سواء كانت الموالاة بمودة القلب ، أو بنصره ، أو باستنصاره سواء :
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) . .
هكذا . . ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة ، ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية . . فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات .
ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات . . ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - " ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان " . . فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق ، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية . فما يجوز هذا الخداع على الله !
ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب ، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا :
نهى الله ، تبارك وتعالى ، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد على ذلك فقال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي : من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [ النساء : 144 ] وقال [ تعالى ]{[4934]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ]{[4935]} } [ المائدة : 51 ] .
[ وقال تعالى ]{[4936]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى أن قال : { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة : 1 ] وقال تعالى - بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب - : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ] .
وقوله : { إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : إلا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : " إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ " .
وقال الثوري : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس : إنما التقية باللسان ، وكذا قال أبو العالية ، وأبو الشعثاء والضحاك ، والربيع بن أنس . ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]{[4937]} } [ النحل : 106 ] .
وقال البخاري : قال الحسن : التقية إلى يوم القيامة .
ثم قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي : يحذركم نقمته ، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه .
ثم قال تعالى : { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : إليه المرجع والمنقلب ، فيجازي كل عامل بعمله .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن أبي حسين ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون [ بن مِهْران ]{[4938]} قال : قام فينا معاذ ابن جبل فقال : يا بني أود ، إني رسول رسول الله إليكم ، تعلمون أن المعاد [ إلى الله ]{[4939]} إلى الجنة أو إلى النار{[4940]} .
هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم ، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فقال ابن عباس : كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق{[3073]} وقيس بن زيد{[3074]} قد بطنوا{[3075]} بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير{[3076]} وعبد الله بن جبير{[3077]} وسعد بن خيثمة{[3078]} لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك ، وقال قوم : نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة{[3079]} وكتابه إلى أهل مكة ، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة{[3080]} في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة ، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه السلام لعمار { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }{[3081]} .
وقوله تعالى : { من دون } عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه { دون } غائباً متنحياً ليس من الأمر الأول { في شيء } ، وفي المثل ، وأمر دون عبيدة الوذم{[3082]} كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه ، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون فيما قاله نظر ، قوله : { فليس من الله في شيء } معناه ، في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي عليه السلام من غشنا فليس منا{[3083]} ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره ، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا ، وقوله { في شيء } هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله { ليس من الله }{[3084]} ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الأتقاء ، فأما إبطانه{[3085]} فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال ، وقرأ جمهور الناس «تقاة » أصله وقية -على وزن فعلة - بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء { تقاة } قال أبو علي يجوز أن تكون { تقاة } مثل رماة حالاً من { تتقوا } وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل ، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة «تقية » بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في { تقاة } في الموضعين ، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله : { حق تقاته }{[3086]} وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعاً كان يقرأها بين الفتح والكسر ، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } من جهة صلة الرحم أي ملامة ، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرابة من الكفار ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية ، إلا أن تخافوا منهم خوفاً وهذا هو معنى التقية .
واختلف العلماء في التقية ممن تكون ؟ وبأي شيء تكون ؟ وأي شيء تبيح ؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه ، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، قال مالك رحمه الله : وزوج المرأة قد يكره ، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب ، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفاً متمكناً فهو مكره وله حكم التقية ، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية ، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه ، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه ، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه ، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال ، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق ، وإطلاق القول بهذا كله ، ومن مداراة ومصانعة ، وقال ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به . واختلف الناس في الأفعال{[3087]} ، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق : يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك ، وقال مسروق : فإن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون : بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله ، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له ، نهيت بن الحارث ، أخذته الفرس أسيراً ، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار ، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر ، فقال :وما كان عليّ نهيت أن يأكل وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال ، فأما الأفعال فلا ، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك ، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه ، قال ابن حبيب : وهذا قول حسن .
قال القاضي : وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبله ، وفي كتاب الله { فأين ما تولوا فثم وجه الله }{[3088]} وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ، هذه قواعد مسألة التقية ، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه .
وقوله تعالى : { ويحذركم الله } إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة ، وقوله : { نفسه } نائبة عن إياه ، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات ، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه ، فقال ابن عباس والحسن ، ويحذركم الله عقابه .
استئناف عُقب به الآي المتقدمة ، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله ، وحسد اليهود لهم ، وتولّيهم عنه : من قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم } [ آل عمران : 116 ] إلى هنا .
فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها :
نَهى الله المؤمنين بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم أنْ يتخذوا الكفّار أولياءَ من دون المؤمنين ؛ لأنّ اتّخاذهم أولياء بعد أنْ سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتِّباعه يعدّ ضعفاً في الدين وتصويباً للمعتدين .
وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك ، والكافرين والذين كفروا على المشركين ، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات ، وأنساب ، ومودّات ، ومخالطات مالية ، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم . وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين . وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين : مثل المراد من قوله : { ومن يكفر بآيات اللَّه فإنّ اللَّه سريع الحساب } [ آل عمران : 19 ] ، فلذلك كله قيل : إن الآية نزلت في « حاطب بن أبي بلتعه » وكان كان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين ، إلا أنه تأول فكتب كتاباً إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وقيل : نزلت في أسماءَ ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرّ والدتها وصِلتِها ، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة ؛ فإنّه ثبت في « الصحيح » أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : صِلِي أمَّكِ . وقيل : نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولِّين لكعْب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيق ، وهما يهوديان بيثرب . وقيل : نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود ؛ إذ هم كفّار جهتهم ، وقيل : نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود ، فلما كان يوم الأحزاب ، قال عُبادة للنبيء صلى الله عليه وسلم إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يَخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو . وقيل : نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذاباً شديداً ، فقال ما أرادوه منه ، فكَفُّوا عنه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " كيف تجد قلبك " قال : « مطمئناً بالإيمان » فقال : فإنْ عَادُوا فعُد .
وقوله : { من دون المؤمنين } ( من ) لتأكيد الظرفية .
والمعنى : مباعدين المؤمنين أي في الولاية ، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر ، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين ، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين ، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين ، وأصل القيود أن تكون للاحتراز ، ويدل لذلك قوله بعده : « ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء » لأنّه نفيٌ لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال ، والعرب تقول : « أنت منّي وأنا منك » في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر ، أو مبتدأ منه ، ويقولون في الانفصال والقطيعة : لست منّي ولست منك ؛ قال النابغة :
فقوله : { في شيء } تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله ، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر ، وهو الحال التي كان عليها المنافقون ، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين ، ففضحهم الله تعالى ، ولذلك قيل : إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين ، ومِمَّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إنّ المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار } [ النساء : 144 ، 145 ] .
وقيل : لا مفهوم لقوله : { من دون المؤمنين } لأنّ آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقاً : كقوله : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } [ المائدة : 51 ] وقوله { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 57 ] وإلى هذا الوجه مالَ الفخر .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك } بمعنى ذلك المذكور ، وهو مضمون قوله : { أولياء من دون المؤمنين } .
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً ، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط ، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام ، وقد استخلصتُ من ذلك ثمانية أحوال .
الحالة الأولى : أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر ، أو طائفته ، أولياء له في باطن أمره ، ميلاً إلى كفرهم ، ونواء لأهل الإسلام ، وهذه الحالة كفر ، وهي حال المنافقين ، وفي حديث عتبان بن مالك : أنّ قائلاً قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين مالك بن الدُّخْشُن " ، فقال آخر : « ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله » فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقل ذلك أما سمعتَه يقول لا إله إلاّ الله يبْتغي بذلك وجه الله " فقال القائل : « الله ورسوله أعلم فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين » . فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلاّ الله .
الحالة الثانية : الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم ، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين ، والاستهزاء بهم ، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفّار ، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين ، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها ، إلاّ أنّ ارتكبها إثم عظيم ، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام ، على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام ، والغيرة عليه ، كما قل العتابي :
تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني *** صديقك إنّ الرأي عنك لَعَازب
وفي مثلها نزل قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 9 ] قال ابن عطية : كانت كفّار قريش من المستهزئين » وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى : { إنّما ينهاكم اللَّه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم } [ الممتحنة : 9 ] الآية وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] الآية نزلت في قوم كان ، بينهم وبين اليهود ، جوار وحلف في الجاهلية ، فداوموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم ، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف ، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيْق ، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحالة الثالثة : كذلك ، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم ، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى : { ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا ، الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين ، وآووهم ، قال الفخر : وهذه واسطة ، وهي لا توجب الكفر ، إلاّ أنّه منهيّ عنه ، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين .
الحالة الرابعة : موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين ، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة ، فقد قال مالك ، في الجاسوس يتجسس للكفّار على المسلمين : إنّه يُوكل إلى اجتهاد الإمام ، وهو الصواب لأنّ التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غروراً ، ويفعله طمعاً ، وقد يكون على سبيل الفلتة ، وقد يكون له دأباً وعادة ، وقال ابن القاسم : ذلك زندقة لا توبة فيه ، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق ، وهو الذي يُظهر الإسلام ويسر الكفار ، إذَا اطُّلع عليه ، وقال ابن وهب رِدّة ويستتاب ، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر .
وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمْتونيين ، فيقال : إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أميرَ المسلمين علياً بنَ يوسف بنِ تاشفين ، بكفر ابن عبّاد ، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه .
الحالة الخامسة : أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم ، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعَرْضِهم النصرة لهم ، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها : ففي المدوّنة قال ابن القاسم : لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافرٍ تبعه يوم خروجه إلى بدر : " ارجع فلن أستعين بمشرك " وروى أبو الفرج ، وعبد الملك بن حبيب : أنّ مالكاً قال : لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة ، قال ابن عبد البر : وحديث « لَن أستعين بمشرك » مختلف في سنده ، وقال جماعة : هو منسوخ ، قال عياض : حملُه بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاص واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ، وفي غزوة الطائف ، وهو يومئذ غير مسلم ، واحتجوا أيضاً بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود : « إنَّا وأنتم أهل كتاب وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإمّا قاتلتم معنا وإلاّ أعرتمونا السلاح » وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، والليث ، والأوزاعي ، ومن أصحابنا من قال : لا نطلب منهم المعونة ، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم : لأنّ الإذن كالطلب ، ولكن إذا أخرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم ، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج ، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد ، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة : أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين ، قال ابن رشد : وهذا لا وجه له ، وعن أصبغ المنع مطلقاً بلا تأويل .
الحالة السادسة : أن يتّخذ واحد من المسلمين واحداً من الكافرين بعينه وَليّاً له ، في حسن المعاشرة أو لقرابة ، لكمال فيه أو نحو ذلك ، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين ، وذلك غير ممنوع ، فقد قال تعالى في الأبوين : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [ لقمان : 15 ] واستأذنتْ أسماءُ النبي صلى الله عليه وسلم في برّ والدتها وصِلتها ، وهي كافرة ، فقال لها : « صِلِي أمّك » وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم } [ الممتجنة : 8 ] قيل نزلت في والدة أسماءَ ، وقيل في طوائف من مشركي مكة : وهم كنانة ، وخزاعة ، ومزينة ، وبنو الحرث ابن كعب ، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة . وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي ، لما يبديه من محبة النبي ، والتردّد عليه ، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة ، وكانوا ثلاثمائة فارس ، عن قتال المسلمين ، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الآية .
الحالة السابعة : حالة المعاملات الدنيوية : كالتجارات ، والعهود ، والمصالحات ، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه .
الحالة الثامنة : حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } .
والاستثناء في { إلاّ أن تتّقوا } منقطع ناشىء عن جملة { فليس من الله في شيء } لأنّ الاتّقاء ليس ممّا تضمنه اسم الإشارة ، ولكنّه أشبَه الولاية في المعاملة .
والاتّقاء : تجنّب المكروه ، وتعديته بحرف ( مِن ) إمّا لأنّ الاتّقاء تستّر فعديّ بمن كما يعدّى فعل تستّر ، وإمّا لتضمينه معنى تخافوا .
و { تُقاةً } قرأه الجمهور : بضم المثنّاة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف ، وهو اسم مصدر الاتّقاء ، وأصله وُقَيَة فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعاً لفعل اتّقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتّى إدغامها في تاء الافتعال ، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتُّجاة والتكْلة والتوءَدَة والتخْمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلاّ هذا . وشذّ تُراث . يدل لهذا المقصد قول الجوهري : « وقولهم تُجاهك بني على قولهم اتّجه لهم رأي » . وفي « اللسان » في تخمة ، « لأنّهم توهّموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال » . ويدل لذلك أيضاً قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشدّدة بوزن فَعِيلة .
وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا : الإشارة إلى تحقّق كون الحالة حالة تَقِية ، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يَجدوا سبيلاً للهجرة ، قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار ، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدوّ ، وكذلك يجب أن تكون التُّقاة غير دائمة لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري .
وقوله : { ويحذركم الله نفسه } تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها .
وانتصاب { نفسَه } على نزع الخافض وأصله ويحذّركم الله من نفسه ، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسدَ ، وأصله أحَذِّرك من الأسد . وقد جعل التّحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعمّ في الأحوال ، لأنّه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهّم أنّ لله رضا لا يضرّ معه ، تعمّد مخالفة أوامره ، والعربُ إذا أرادت تعميم أحوال الذات علّقت الحكم بالذات : كقولهم لولا فلان لهلك فلان ، وقوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون إلى قوله لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } [ الفتح : 25 ] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا .
وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافاً إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] .
وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه .
و { المصير } : هو الرجوع ، وأريد به البعث بعد الموت وقد عَلِم مثبتو البعث لا يكون إلاّ إلى الله ، فالتقديم في قوله : { وإلى الله } لمجرد الاهتمام ، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا نهي من الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا، ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك "فليس من الله في شيء¹": يعني بذلك، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، "إلا أن تتقوا منهم تقاة": إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل.
وقال آخرون: معنى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}: إلا أن يكون بينك وبينه قرابة... أن يصل رحما له في المشركين... فأما في الدين فلا.
وهذا تأويل له وجه، وليس بالوجه الذي يدلّ عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة.
فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافة. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية إنما هي تقية من الكفار، لا من غيرهم، ووجهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على معنى الكلام، والتأويل في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم.
{ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وإلى اللّهِ المَصِيرُ}: ويخوّفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب، يعني بذلك: متى صرتم إليه، وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به، يقول: فاتقوه واحذوره أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العذاب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما بين عظيم آياته بما في مقدوراته مما لا يقدر عليه سواه، دل على أنه ينبغي أن تكون الرغبة في ما عنده وعند أوليائه من المؤمنين دون أعدائه الكافرين، فنهى عن اتخاذهم أولياء دون أهل التقوى الذين سلكوا طريق الهدى. والولي هو الأولى، وهو أيضا الذي يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة...
"وإلى الله المصير": إلى جزاء الله المصير أي المرجع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من حقائق الإيمان الموالاةُ في الله والمعاداة في الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرّر ذلك في القرآن {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 50]، {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله} الآية [المجادلة: 22]. والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان. {مِن دُونِ المؤمنين}: يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم. {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شيء}: ومن يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأساً، وهذا أمر معقول فإنّ موالاة الوليّ وموالاة عدوّه متنافيان.
{إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة}: إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه... رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالطة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قشر العصا. {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}: فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار... وقال قوم: نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة،... {فليس من الله في شيء}: في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي عليه السلام "من غشنا فليس منا"، وفي الكلام حذف مضاف تقديره، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا،... {ويحذركم الله...}: وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة،
الأول: أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله...
الثاني: لما بين أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده، وعند أوليائه دون أعدائه...
واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوبا له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة...
وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه. والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة، والمظاهرة، والنصرة إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}...
قال: {وإلى الله المصير} والمعنى: إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق؛ نهى المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم... فقال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون} أي الراسخون في الإيمان... ولما كان التقدير: فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون الرسوخ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام ما مثاله: جاء قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} بعد تلك الآية التي نبه الله فيها النبي والمؤمنين إلى الالتجاء إليه معترفين أن بيده الملك والعز ومجامع الخير والسلطان المطلق في تصريف الكون يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. فإذا كانت العزة والقوة له عز شأنه فمن الجهل والغرور أن يعتز بغيره من دونه، وأن يلتجئ إلى غير جنابه، أو يذل المؤمن في غير بابه... وولاية الله من العبد طاعته ونصر دينه ومن الله مثوبته ورضوانه. وقال الأستاذ الإمام: معنى العبارة انه يكون بينه وبين الله غاية البعد أي تنقطع صلة الإيمان بينه وبين الله تعالى. أي فيكون من الكافرين كما قال في آية أخرى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 45] أو معناه فيكون عدو الله، وقد صرح بذلك الأستاذ...
وقوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} استثناء من أعم الأحوال أي أن ترك موالاة الكافرين على المؤمنين حتم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم فلكم حينئذ ان توالوهم بقدر ما يتقى به ذلك الشيء، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذه الموالاة تكون صورية لأنها للمؤمنين لا عليهم...
وأما المداراة فيما لا يهدم حقا ولا يبني باطلا فهي كياسة مستحبة يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق، ويستجر فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونا من سفههم، واتقاء لفحشهم،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين، وتوعد على ذلك فقال: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} أي: فقد انقطع عن الله، وليس له في دين الله نصيب، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه، قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فمن والى -الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين، وصار من حزب الكافرين،... قال تعالى: {ويحذركم الله نفسه} أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك {وإلى الله المصير} أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر.. وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين. ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول. والأمر كله بيد الله. وهو ولي المؤمنين دون سواه... لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله.. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)... هكذا.. ليس من الله في شيء. لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية.. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{في شيء} تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال التي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل: إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين، ومِمَّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إنّ المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار} [النساء: 144، 145]...
والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام.
وقد استخلصتُ من ذلك ثمانية أحوال...
الحالة الأولى: أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفته، أولياء له في باطن أمره، ميلاً إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين،...
الحالة الثانية: الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وأذاهم كما كان معظم أحوال الكفّار، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلاّ أنّ ارتكبها إثم عظيم، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام،... وفي مثلها نزل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} [المائدة: 9]...
الحالة الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا، الذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82] وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلاّ أنّه منهيّ عنه، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين...
الحالة الرابعة: موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين...
الحالة الخامسة: أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعَرْضِهم النصرة لهم،...
الحالة السادسة: أن يتّخذ واحد من المسلمين واحداً من الكافرين بعينه وَليّاً له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان: 15]...
الحالة السابعة: حالة المعاملات الدنيوية: كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه.
الحالة الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير... بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا،وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم عن لم يحسنوا القيام عليه؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه انه لا يصح للمؤمن ان يستعين بسلطان غير المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن،فإن الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر،ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا؛ فكان الآيات السابقة مقدمة،وهذه الآية نتيجة؛ أي انه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن ان يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته؛ لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه؛ ولذا قال سبحانه: {ولا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}... الظاهر ان المراد هو من يتولى امر غيره، فمعنى {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} نهى المؤمنين وسلطانهم؛ فإن على المؤمنين ان يكونوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على ان أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى: {من دون المؤمنين} فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم؛ فالمعنى إذن انه لا يجوز لطائفة من المؤمنين ان يكونوا في ولاية غير المؤمنين...
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن ان يكون المؤمنون او بعضهم في ولاية غير المؤمنين،وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين أن السبب في انه لا يجوز للمؤمنين أن يتولوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم،يتكون من ثلاثة أمور: أولها:أن غير المؤمنين لا يمكن ان يرعوا حقوق المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي،ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيهما:أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} إذ تكون كل قوته و كل نشاطه الإنساني و الاجتماعي لهم، وليس منه شيء.
و ثالثهما: أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم،ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة،وفي ذلك فساد أي فساد؛ ولذا قال تعالى: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير...
وإن هذا النص يستفاد منه ان التقية جائزة،والتقية ان يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على ان يكون نزول الذي مؤكدا،وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان...106} [النحل] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية،وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين ان يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض...
ويحذركم الله نفسه} للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين،فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات،كما يقول القائل:خاصمت زيدا نفسه،وغاضبت عمروا نفسه؛ وللإشارة إلى ان ما ينزله الله تعالى مغيب غي معلن الآن؛ إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها،كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب116} [المائدة]. وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء،ونقمته أكثر استمرارا؛ ولذا قال بعد ذلك: {وإلى الله المصير} أي إليه وحده المآل وانتهاء امر العباد،فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل،والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين؛ فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية،والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين،وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة،فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الإيمان في حركة العلاقات الإنسانية في هذه الآيات دعوة الجماعة الإسلامية للارتباط العضوي بين أفرادها من موقع الإيمان الواحد، وللتأكيد على الفواصل التي تفصلهم عن الكافرين، في ميزان العلاقات الحميمة التي تعبّر عن الإخلاص والولاية، لأن العقيدة لا تُعتبر رباطاً فكرياً يجمع أتباعها، بل تمثل ـ إلى جانب ذلك ـ رباطاً روحيّاً شعورياً يجمع القلوب على المحبة، ويوجهها إلى الاندماج العاطفي في علاقة روحية حميمة، ولا بد لها ـ في هذا الجو ـ من أن تتحوّل إلى حاجزٍ يفصل الفكر والشعور عن الآخرين الذين يعيشون الفكر والشعور المضادّ، لأن اللامبالاة ـ في هذا المجال ـ توحي بأن الإنسان لا يعيش الاهتمامات الإيمانية بالمستوى المطلوب، ولا يجد للمواقف المضادة لفكره الإيماني، في كل ما يمثله الفكر من رموز الإيمان وقضاياه وتطلعاته، أيّ أثر سلبي في داخله. إن الآيات ـ في ما نفهم ـ تريد أن تقرر للمؤمنين قضية ترتبط بحقيقة الإيمان، وهي أن الإيمان لا بد من أن يتحوّل إلى موقعٍ يحكم الفكر والعاطفة والسلوك، لئلا يبقى مجرّد فكرةٍ تعيش في زحام الأفكار الراقدة في ذهن الإنسان، من دون أن تمثّل أيّ حضور وجداني في حياته الشعورية والعاطفية. وفي ضوء ذلك، نتعلم أن الفكرة التي تتحول إلى إيمان، تعني انطلاق الشخصية الإنسانية في خطّ الفكر في إيجابياته وسلبيّاته، في مواقع اللقاء، وفي مواقع الافتراق، بحيث تتحرك النظرة إلى الأحداث والأشخاص والعلاقات، تبعاً لحركة الفكرة في مسارها الواقعي، فلا معنى ـ في هذا الجو ـ للشعور العميق الشخصي بالمودة والموالاة للأشخاص الذين يمثّل فكرهم وشعورهم وسلوكهم التحدي المضاد للفكرة، أو للحالة النفسيّة المعقّدة سلبياً إزاء الأشخاص الذين يعيشون في حياتهم الفكرية والعاطفية والعمليّة، الخط المستقيم مع الفكرة. إن المدلول الطبيعي لهذا السلوك، هو اعتبار الصفات الذاتية التي يملكها هذا الشخص في الجانب الإيجابي أو السلبي، هي الأساس للتقييم والتفضيل والاندماج بعيداً عن الجوانب الإيمانية التي لا تمثل إلاّ شيئاً شخصياً يعيش في زاويةٍ ساذجةٍ من زوايا الشخصيّة، بحيث لا تترك أيّ تأثير على طبيعتها ونوعِيتها. وهذا ما يحاوله الكثيرون في هذا العصر ممن يعملون على أن عزل العلاقات الإنسانية عن الجوانب العقيدية للإنسان، فيقررون المبدأ الذي يقول: إن اختلاف الأفكار والمبادئ لا يمنع من إقامة أيّة علاقة طبيعية حميمة يسودها الودّ والإخلاص. وقد عبر أحد الشعراء عن هذا الاتجاه بقوله: «اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة». ولكننا نحاول ـ في التعليق على هذا الرأي ـ التفريق بين الخلافات الفكرية التي لا تترجم خلافاً في المواقف العملية، بل تعبّر عن بعض القضايا العامة والخاصّة التي تمثّل نظرةً معيّنة في تفسير أو تحليل حقيقةٍ فلسفيةٍ أو اجتماعية أو سياسيةٍ أو نفسيةٍ، وبين الخلافات الفكريّة التي تتصل بالجانب الروحي والفكري والعملي للإنسان، حيث تتمثل في الصراع المتحرك في جميع الاتجاهات، بحيث يترك تأثيره على الفكر والشعور والممارسة، وفي التفاعل الشعوري بين الذات والفكرة، بحيث تتحول الفكرة إلى جزء حيّ من الذات يحمل معنى القداسة في ما توحي به من رموزٍ مقدسةٍ تحمل معنى الرفض الحاسم للرموز الأخرى، بحيث لا يمكن لها أن تلتقي في الموقع الواحد، بالإخلاص لكل الرموز، أو بالإخلاص لرمز معين مع التساهل في طبيعة الموقف من الرمز الآخر... وذلك كما هي الحالة في قضية الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، فإن الإيمان يمثل الارتباط بالله في حضورٍ فكري وروحي خاشعٍ عميق، بينما يمثّل الكفر النفي الحازم للفكرة، في استهانةٍ بكلّ ما تمثله من معانٍ وقيم، كما أن التوحيد يعني فكرة الإله الواحد الذي لا شريك له. ولا بد من أن تكون العبادة له وحده، كنتيجة طبيعيّة لكون الإيمان به وحده. أمّا الشرك، فهو الذي يمثّل الإخلاص لفكرة الصنميّة في العقيدة، أو في العبادة... وهكذا في الأفكار الأخرى المشابهة في الحقول الأخرى، كفكرة العدل والظلم، أو الحريّة والعبودية، أو الاستقلال والاستعمار، فإن مثل هذه الخلافات تفرض التزاماً يحمل معنى التحدي للفكر أو للواقع الذي يمثّله، والتحرك الصارخ في هذا الاتجاه، ما يقتضي أن يعيش أصحابها مستوىً كبيراً من التوتر الروحي للفكرة ليتحقق لهم الارتفاع على الضغوط الكبيرة التي يواجهونها. وفي مثل هذه الحال، لا يمكن أن تبقى العلاقات الحميمة بين الفرقاء المختلفين مع إخلاص كلّ منهم لموقعه ومواقفه والتزاماته... أمّا الخلافات الفكريّة المجرّدة التي تعيش في نطاق الحياة العلمية للإنسان، أو في نطاق الحياة العملية البعيدة عن القضايا الأساسية لديه، فإنها لا تترك أيّ تأثير على العلاقات، لأنها لا تعيش في عمقها، بل تظل بعيدة عنها في حركتها الفكرية أو في مسارها العملي. وقد جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب حاسم يضع القضية أمام علاقة الإنسان بالله بين أن تكون أو لا تكون، من دون أن يكون هناك حلّ وسط، ما يعطي القضية أهميتها الكبرى في حساب الإيمان. ثم تصاعد الأسلوب في الإيحاء للإنسان بأن عليه أن لا يسترخي فيشعر بالأمن والطمأنينة في إحسان الله إليه وترك عقوبته في الدنيا، لأنّ ذلك لا يمثل الرضا والتسامح في ما يتمرد فيه الإنسان على الله، بل يجب أن يحذر، فإن الله يحذر المنحرفين عن الخط المستقيم من نفسه، فقد يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون...
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} الذين عاشوا الإيمان عقيدةً والتزموه عملاً، وانفتحوا عليه روحاً وعقلاً وحركة حياة، فكان الله أحب إليهم من أنفسهم ومن كل شيء آخر {الْكَافِرِينَ} الذين جحدوا الله في وجوده وتوحيده ورسله ورسالاته واتبعوا الشيطان في خططه وحبائله ووساوسه، فكانت الحياة في وجدانهم الفرصة الأولى والأخيرة للّهو وللعبث والتمرّد على الله وعلى رسوله والانحراف عن القيم الأصيلة في الإنسان الواعي، وكانت دروبهم دروب المتاهات الصحراوية التي لا تأوي إلى ظل ولا تسكن إلى واحة، {أَوْلِيَآءَ} يلقون إليهم بالمودة ويمحضونهم الإخلاص، ويتبعونهم في أوامرهم ونواهيهم، ويتحركون معهم في خططهم وتعاليمهم، ويعادون من عادوا ويوالون من والوا، فيكونون طوع إرادتهم في السرّاء والضرّاء، حتى يذوبوا فيهم وفي كفرهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم، ويفضلونهم على المؤمنين، فلا ينفتحوا عليهم {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، بل لا بد لهم من تفضيل المؤمنين على غيرهم في كل الأمور، فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله...