وبعد أن حضهم على صلة الأقارب والمساكين وابن السبيل ، نفرهم من تعاطى الربا فقال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله } .
والربا : الزايدة مطلقا . يقال : ربا الشئ يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } أى : زادت .
قال الآلوسى ما ملخصه : والظاهر أن المراد بالبر هنا ، الزيادة المعروفة فى المعاملة التى حرمها الشارع . ويشهد لذلك ما روى عن السدى ، من أن الآية نزلت فى ربا ثقيف ، كانوا يرابون ، وكذلك كانت قريش تتعاطى الربا .
وعن ابن عباس وغيره : أن المراد به هنا العطية التى يتوقع بها مزيد مكافأة ، وعليه فتسميتها ربا مجاز ، لأنها سبب للزيادة .
ويبدو لنا أن المراد هنا ، الربا الذى حرمه الله - تعالى - بعد ذلك تحريما قاطعا ، وأن المقصود من الآية التنفير منه على سبيل التدرج ، حتى إذا جاء التحريم النهائى له ، تقبلته نفوس الناس بدون مفاجأة لهذا التحريم .
قال صاحب الكشاف : هذه الآية فى معنى قوله - تعالى - { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } سواء بسواء . يريد : وما أعطيتم أكلة الربا { مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي } أموالهم ، أى : ليزيد ويزكو فى أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه .
ثم حض - سبحانه - على التصدق فى سبيله فقال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ } أى من صدقة تتقربون بها إلى الله ، و { تُرِيدُونَ } بأدائها { وَجْهَ الله } أى : رضاه وثوابه . { فأولئك } الذين يفعلون ذلك { هُمُ المضعفون } أى : ذوو الأضعاف المضاعفة من الثواب والعطا الكريم ، فالمضعفون جمع مضعف - بكسر العين - على أنه اسم فاعل من أضعف ، إذا صار ضِعْف - بكسر فسكون - كأقوى وأيسر ، إذا صار ذا قوة ويسار .
وقال - سبحانه - : { فأولئك هُمُ المضعفون } ولم يقل : فأنتم المضعفون ، لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة ، كانه قال لملائكته : فاولئك الذين يريدون وجهى بصدقاتهم ، هم المضعفون ، فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون .
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس ، كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي : وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية :
( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) . .
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال : إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا ، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
ثم قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } أي : من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم ، فهذا لا ثواب له عند الله - بهذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي - وهذا الصنيع مباح{[22862]} وإن كان لا ثواب فيه{[22863]} إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله الضحاك ، واستدل بقوله : { وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي : لا تعط العطاء تريد أكثر منه .
وقال ابن عباس : الربا رباءان ، فربا لا يصح{[22864]} يعني : ربا البيع ؟ وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها{[22865]} وأضعافها . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ } .
وإنما الثواب عند الله في الزكاة ؛ ولهذا قال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء ، كما [ جاء ]{[22866]} في الصحيح : " وما تصدق أحد بِعِدْل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه ، فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه ، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُد " {[22867]} .
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم » بمعنى وما أعطيتم ، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم » بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صواباً وأتيت خطأ ، وأجمعوا على المد في قوله { وما آتيتم من زكاة } . و «الربا » الزيادة ، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس : هذه آية نزلت في هبات الثواب .
قال الفقيه الإمام القاضي : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى{[9319]} ، وقال ابن عباس أيضاً وإبراهيم النخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع ، وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحداً وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة { لا يربو عند الله } .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول ، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات ما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالاً وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك { لا يربو عند الله } ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة ، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيراً يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافاً مضاعفة على ما شاء الله تعالى له ، وقال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش ، وقرأ جمهور القراء السبعة «ليربوا » بالياء وإسناد الفعل إلى الربا ، وقرأ نافع وحده «لتُربوا » بضم التاء على وزن تفعلوا بمعنى تكونوا ذوي زيادة ، وهذه قراءة ابن عباس وأهل المدينة الحسن وقتادة وأبي رجاء والشعبي ، قال أبو حاتم هي قراءتنا ، وقرأ أبو أبو مالك «لتربوها » بضمير المؤنث ، و «المضعف » الذي هو ذو أضعاف من الثواب كما المؤلف الذي له آلاف ، وكما تقول أخصب إذا كان ذا خصب . وهذا كثير ، ومنه أربى المتقدم في قراءة من قرأ «لتُربوا » بضم التاء .
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش . فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم ، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة ، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره ، وذلك لا يليق بالمؤمنين .
و { ما } شرطية تفيد العموم ، فالجملة معترضة بعد جملة { فئاتِ ذا القربى حقه } [ الروم : 38 ] الخ . والواو اعتراضية . ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم . وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق . فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه .
ومعنى { ءاتيتم } : آتى بعضكم بعضاً لأن الإيتاء يقتضي مُعطياً وآخذاً .
وقوله { لتربوا في أموال الناس } خطاب للفريق الآخِذِ .
و { لتربوا } لتزيدوا ، أي لأنفسكم أموالاً على أموالكم . وقوله : { في أموال الناس في } للظرفية المجازية بمعنى ( من ) الابتدائية ، أي لتنالوا زيادة وأرباحاً تحصل لكم من أموال الناس ، فحرف { في } هنا كالذي في قول سَبْرةَ الفقعسي :
ونَشْرَبُ فِي أثمانها ونُقامر{[317]}
أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا . وتقدم بيانه عند قوله تعالى { وارْزُقُوهُمْ فيها واكْسُوهم } في سورة النساء ( 5 ) .
و{ مِن } في قوله { من رباً } وقوله { من زكاة } بيانية مبينة لإبهام { مَا } الشرطية في الموضعين . وتقدم الربا في سورة البقرة .
وقوله { فلا يربو عند الله } جواب الشرط . ومعنى { فلا يربو عند الله } أنه عمل ناقص عند الله غير زاككٍ عنده ، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير . وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة ، ولموافقة معنى قوله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ البقرة : 276 ] ، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا { فأولئك هم المضعفون } وقوله { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } في سورة آل عمران ( 130 ) . وهذا المعنى مروي عن السدّي والحسن . وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى في } من قوله { في أموال الناس .
ويجوز أن يكون لفظ { ربا } في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره ، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصدَ الزيادة في أموالهم تقرباً إليهم ، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والمَلَق . ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئاً وإنما نفعه لأنفسهم . ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى : وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس ، وتصير كلمة { لتربوا } توكيداً لفظيّاً ليعلق به قوله { في أموال الناس } .
وقوله { وما ءاتيتم من زكاة } الخ رجوع إلى قوله { فئاتِ ذا القربى حقه } [ الروم : 38 ] الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة .
وجملة { فأولئك هم المضعفون } جواب { وما ءاتيتم من زكاة ، } أي فمؤتوه المضعفون ، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب . وضمير الفصل لقصر جنس المضعفين على هؤلاء ، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دُنيوي زائل . واسم الإشارة في قوله { فأولئك هم المضعفون } للتنويه بهؤلاء والدلالة على أنهم أحرياء بالفلاح . واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة .
وقرأ الجمهور { ءاتيتم } بهمزتين ، أي أعطيتم . وقرأه ابن كثير { أتيتم } بهمزة واحدة ، أي قصدتم ، أي فعلتم . وقرأ الجمهور { ليَربوَ } بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو { ليربوَ } وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو جماعة بالاتفاق ، ورسم المصحف سنة . وقرأ نافع { لتُربوا } بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما آتيتم من ربا}: وما أعطيتهم من عطية.
{ليربو في أموال الناس} تزدادوا في أموال الناس...
{فلا يربو عند الله}: فلا تضاعف تلك العطية عند الله، ولا تزكو.
ثم بين الله عز وجل ما يربو من النفقة فقال عز وجل: {وما آتيتم من زكاة}: وما أعطيتم من صدقة.
{تريدون} بها {وجه الله} ففيه الأضعاف، فذلك قوله عز وجل: {فأولئك هم المضعفون} الواحدة عشرة فصاعدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أعطيتم أيها الناس بعضكم بعضا من عطية لتزداد في أموال الناس برجوع ثوابها إليه، ممن أعطاه ذلك، "فلا يربو عند الله "يقول: فلا يزداد ذلك عند الله، لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه. "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ" يقول: وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله، فأولئك يعني الذين يتصدّقون بأموالهم ملتمسين بذلك وجه الله "هم المضعفون" يقول: هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب...
وقال آخرون: إنما عنى بهذا: الرجلَ يعطي ماله الرجلَ ليعينه بنفسه، ويخدمه ويعود عليه نفعه، لا لطلب أجر من الله...
وقال آخرون: هو إعطاء الرجل ماله ليكثر به مال من أعطاه ذلك، لا طلب ثواب الله...
وقال آخرون: ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وأما لغيره فحلال...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه أظهر معانيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة: "لِيَرْبُوَ" بفتح الياء من يربو، بمعنى: وما آتيتم من ربا ليربوَ ذلك الربا في أموال الناس. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة: «لِتَرْبُوا» بالتاء من تُربوا وضمها، بمعنى: وما آتيتم من ربا لتُربوا أنتم في أموال الناس.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار مع تقارب معنييهما، لأن أرباب المال إذا أربوا ربا المال، وإذا ربا المالُ فبإرباء أياه ربا. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
وأما قوله: "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ" فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذه الآية في معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 278] سواء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا {مِّن رِباً لِّيَرْبُوَاْ فى} أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زكاوة} أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة {فأولائك هُمُ المضعفون} ذوو الإضعاف من الحسنات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صواباً وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله {وما آتيتم من زكاة}. و «الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس: هذه آية نزلت في هبات الثواب.
وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضاً وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحداً وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة {لا يربو عند الله}.
وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات ما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالاً وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك {لا يربو عند الله} ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيراً يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافاً مضاعفة على ما شاء الله تعالى له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما آتيتم} أي جئتم أي فعلتم -في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم- في قراءة غيره بالمد.
... ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال: {وما آتيتم} أي أعطيتم للإجماع على مده لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة {من زكاة} أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال: {تريدون} أي بها {وجه الله} خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات.
ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال: {فأولئك} ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم {هم} أي خاصة {المضعفون}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {ما} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فئاتِ ذا القربى حقه} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه.
و {مِن} في قوله {من رباً} وقوله {من زكاة} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين.
{فلا يربو عند الله} جواب الشرط. ومعنى {فلا يربو عند الله} أنه عمل ناقص عند الله غير زاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فأولئك هم المضعفون} وقوله {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} في سورة آل عمران (130).
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وذكر الربا هنا بالأسلوب الذي ورد به يمكن أن يكون إرهاصا قرآنيا مكيا بكراهية الربا التي جاءت بأسلوب تشريعي تحريمي في القرآن المدني وفقا لأسلوبي القرآن المكي والمدني؛ حيث يجنح الأسلوب المكي إلى الحظر بالتخويف من عقاب الله الدنيوي والأخروي وببيان مضار المحظور، في حين يجنح الأسلوب المدني إلى التشريع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد الهجرة صاروا في نطاق دولة وسلطان يستطيعون فيه التنفيذ في حين لم يكن لهم ذلك في العهد المكي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية
كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول، مثل «الموسِر» أي: صاحب المال الكثير.