المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

36- ولكن إبليس الحاسد لآدم والحاقد عليه أخذ يحتال عليهما ويغريهما بالأكل من الشجرة حتى زلاّ فأكلا منها ، فأخرجهما الله مما كانا فيه من النعيم والتكريم ، وأمرهما الله تعالى بالنزول إلى الأرض ليعيشا هما وذريتهما فيها ، ويكون بعضهم لبعض عدواً بسبب المنافسة وإغواء الشيطان ، ولكم في الأرض مكان استقرار وتيسير للمعيشة ، وتمتع ينتهي بانتهاء الأجل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال : { فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي : اذهبهما عن الجنة عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين .

وأزل من الإِزلال وهو الإِزلاق : زل يزل زلا وزللا ، أي : زلق في طين أو منطق ، والاسم الزلة . وأزلة غيره واستزله : أي أزلقه . أطلق وأريد به لازمه وهو الإِذهاب .

وقرئ { فَأَزَلَّهُمَا } أي : نحاهما من الإِزالة ، تقول أزلت الشيء عن مكانه إزالة : أي : نحيته وأذهيته عنه .

ثم استعمل هذا اللفظ في ارتكاب الخطيئة كما استعمل في خطأ الرأي مجازاً . والضمير في قوله : { عَنْهَا } يعود إلى الشجرة ، ومعنى أزلهما عن الشجرة ، أوقعهما في الزلة بسببها .

والتعبير بقوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل : فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا . لكي تذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه .

ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان في قوله : { فَأَخْرَجَهُمَا } من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه ، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما .

وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } الخطاب فيه لآدم وحواء ونسلهما .

والهبوط : النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود . يقال : هبط يهبِط ويهبُط أي : نزل من علو إلى أسفل .

والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب .

أي : قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين ، يبغى بعضكم على بعض .

وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أُمِر بالسجود فأبى وامتنع وقال : أنا خير منه .

وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإِغراء وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لآدم وذريته ، ونهى لهم عن اتباع الخطوات الشيطان ، لأنه عدو لهم ، ومن شأن العدو أنه يسعى لمضرة عدوه .

قال - تعالى - { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } .

المستقر : موضع الاستقرار والثبات ، وهو مقابل القلق والاضطراب ، والمتاع : اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك ، مأخوذ من متع النهار متوعاً إذا ارتفع ، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت .

والحين : الجزء من الزمان غير محدد بحد ، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة .

والمعنى : انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو ؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار . وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت .

ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهي في وقت ، لا يدري متى يدركه ، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها ، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع ، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان ، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

30

( فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما مما كانا فيه ) . .

ويا للتعبير المصور : ( أزلهما ) . . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة ، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي !

عندئذ تمت التجربة : نسي آدم عهده ، وضعف أمام الغواية . وعندئذ حقت كلمة الله ، وصرح قضاؤه :

( وقلنا : اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) . .

وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها . بين الشيطان والإنسان . إلى آخر الزمان .

/خ39

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

وقوله تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله : { عَنْهَا } عائدا إلى الجنة ، فيكون معنى الكلام كما قال{[1590]} [ حمزة و ]{[1591]} عاصم بن بَهْدلَة ، وهو ابن أبي النَّجُود ، فأزالهما ، أي : فنجَّاهما . ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين ، وهو الشجرة ، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ { فأزلهما } أي : من قبيل{[1592]} الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } أي : بسببها ، كما قال تعالى : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 9 ] أي : يصرف بسببه من هو مأفوك ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي : من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة .

{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأرزاق وآجال { إِلَى حِينٍ } أي : إلى وقت مؤقت ومقدار معين ، ثم تقوم القيامة .

وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن مُنَبِّه وغيرهم ، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة ، وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله ، في سورة الأعراف ، فهناك القصة أبسط منها هاهنا ، والله الموفق .

وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس ، كأنه نخلة سَحُوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد{[1593]} في الجنة ، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ ، فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم ، مني تَفِرُّ ! فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب ، لا ولكن استحياء " {[1594]} .

قال : وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي{[1595]} سنة أربع وخمسين ومائتين ، حدثنا سليم{[1596]} بن منصور بن عمار ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ هاربا ؛ فتعلقت شجرة بشعره ، فنودي : يا آدم ، أفِرارًا مني ؟ قال : بل حَيَاء منك ، قال : يا آدم اخرج من جواري ؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين " {[1597]} .

هذا حديث غريب ، وفيه انقطاع ، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما{[1598]} .

وقال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن بَالُويه{[1599]} ، عن محمد بن أحمد بن النضر ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا رَوح ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة ، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة ، على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة .

وقال السدي : قال الله تعالى : { اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } فهبطوا فنزل آدم بالهند ، ونزل معه الحجر الأسود ، وقبضة{[1600]} من ورق الجنة فبثه بالهند ، فنبتت شجرة الطيب ، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم ، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها{[1601]} .

وقال عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا ، أرض الهند .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد عن ابن عباس قال : أهبط آدم ، عليه السلام ، إلى أرض يقال لها : دَحْنا ، بين مكة والطائف .

وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدَسْتُمِيسان{[1602]} من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن عدي{[1603]} ، عن ابن عمر ، قال : أهبط آدم بالصفا ، وحواء بالمروة

وقال رجاء بن سلمة : أهبط آدم ، عليه السلام ، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه ، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء .

وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير ، عن أبي موسى ، قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض ، عَلَّمه صنعة كل شيء ، وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير{[1604]} .

وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها » رواه مسلم والنسائي{[1605]} .

وقال فخر الدين : اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه : الأول : أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي ، قال الشاعر :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد *** ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** درج الجنان ونيل فوز العابد .

أنسيت ربك حين أخرج آدما *** منها إلى الدنيا بذنب واحد

قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال : كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها . فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة ، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا ، والقدري لا يخالف ولا يمانع ؟ فالجواب : أن هذا بعينه استدل به من يقول : إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء ، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية ، وأجاب الجمهور بأجوبة ، أحدها : أنه منع من دخول الجنة مكرما ، فأما على وجه الردع والإهانة ، فلا يمتنع ؛ ولهذا قال بعضهم : كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة ، وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة ، وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض ، وهما في السماء ، ذكرها الزمخشري وغيره . وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ، فأجاد وأفاد{[1606]} .


[1590]:في جـ، ط: "كما قرأ".
[1591]:زيادة من جـ، ط.
[1592]:في جـ، ط، ب: "من قبل".
[1593]:في جـ: "يستدير".
[1594]:تفسير ابن أبي حاتم (1/129).
[1595]:في هـ: "القرشي".
[1596]:في هـ: "سليمان".
[1597]:تفسير ابن أبي حاتم (1/130).
[1598]:في جـ، ب، و: "عنه
[1599]:في جـ: "مالويه".
[1600]:في جـ، ط، ب، أ، و: "فأنزل معه بالحجر الأسود ويقبضه".
[1601]:في جـ، ط، ب: "وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين أخرج منها".
[1602]:في و: "بدسمت ميسان".
[1603]:في جـ، ط، ب، أ، و: "عمرو بن أبي قيس عن الزبير عن ابن عدي".
[1604]:تفسير عبد الرزاق (1/66).
[1605]:صحيح مسلم برقم (854) وسنن النسائي (3/89).
[1606]:تفسير القرطبي (1/313 - 317).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )

و «أزلهما » مأخوذ من الزلل ، وهو في الآية مجاز ، لأنه في الرأي والنظر ، وإنما حقيقة الزلل في القدم .

قال أبو علي : { فأزلهما } يحتمل تأويلين ، أحدهما ، كسبهما الزلة( {[493]} ) ، والآخر أن يكون من زل إذا عثر «( {[494]} ) .

وقرأ حمزة : » فأزالهما « ، مأخوذ من الزوال ، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤدياً إلى الزوال . وهي قراءة الحسن وأبي رجاء ، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم . واختلف في الكيفية ، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : { وقاسمهما } والمقاسمة ظاهرها المشافهة .

وقال بعضهم : إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله ، فقال : يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلداً كان ، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه ، فقال : هل أدلك على شجرة الخلد ؟ .

وقال بعضهم : دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية( {[495]} ) ، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية ، فخرج إلى حواء وأخذ شيئاً من الشجرة ، وقال : انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت ، ثم أغوى آدم ، وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما ، وحصلا في حكم الذنب ، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم( {[496]} ) ، وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر( {[497]} ) ، وكذلك تحملين كرهاً ، وتضعين كرهاً ، تشرفين به على الموت مراراً . زاد الطبري والنقاش : » وتكونين سفيهة ، وقد كنت حليمة « .

وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها ، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : » إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم( {[498]} ) « . والضمير في { عنها } عائد على { الشجرة } في قراءة من قرأ » أزلهما « ، ويحتمل أن يعود على { الجنة } فأما من قرأ » أزالهما «فإنه يعود على { الجنة } فقط ، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر ، تقديره فأكلا من الشجرة .

وقال قوم : » أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعاً على جميع جنسها « .

وقال آخرون : » تأولا النهي على الندب « .

وقال ابن المسيب : » إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله «( {[499]} ) .

وقوله تعالى : { فأخرجهما مما كانا فيه } يحتمل وجوهاً ، فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية . وقيل : من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا . وقيل : من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب( {[500]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يتقارب .

وقرأ أبو حيوة : » اهبُطوا «بضم الباء .

«ويفعُل » كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدٍّ . والهبوط النزول من علو إلى أسفل .

واختلف من المخاطب بالهبوط ، فقال السدي وغيره : «آدم وحواء وإبليس والحية( {[501]} ) » .

وقال الحسن : «آدم وحواء والوسوسة » .

قال غيره : «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته » .

و { بعضكم لبعض عدو } جملة في موضع الحال ، وإفراد لفظ { عدو } من حيث لفظ { بعض } ، وبعض وكل تجري مجرى الواحد ، ومن حيث لفظة { عدو } تقع للواحد ، والجمع ، قال الله تعالى : { هم العدو فاحذرهم }( {[502]} ) [ المنافقون : 4 ] { ولكم في الأرض مستقر } أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد .

وقال السدي : «المراد الاستقرار في القبور ، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة ، وحديث ، وأنس ، وغير ذلك » . وأنشد سليمان( {[503]} ) بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه : [ الطويل ]

وقفتُ على قبرٍ غريب بقفرة . . . متاع قليل من حبيب مفارق( {[504]} )

واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة : إلى الموت ، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا ، وقالت فرقة : { إلى حين } إلى يوم القيامة ، وهذا قول من يقول : المستقر هو في القبور . ويترتب أيضاً على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله : { ولكم } ، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة ، والحين المدة الطويلة من الدهر ، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة .

قال الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها }( {[505]} ) [ إبراهيم : 25 ] وقد قيل : أقصرها ستة أشهر ، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر ، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن .

وفي قوله تعالى : { إلى حين } فائدة لآدم عليه السلام ، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها ، وهي لغير آدم دالة على المعاد .

وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب( {[506]} ) وأن حواء نزلت بجدة ، وأن الحية نزلت بأصبهان ، وقيل بميسان ، وأن إبليس نزل على الأبلة .


[493]:- أي جعلهما يكسبان الزلة والخطيئة، وكسب يتعدى إلى واحد وإلى اثنين، وأزل واستزل بمعنى واحد.
[494]:- أي سقط من منزلة إلى أخرى، يقال زل الرجل، والفرس كبا، وزل به فرسه فسقط.
[495]:- البخت نوع من الإبل، وهي الإبل الخراسانية.
[496]:- ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحيات، وروى البخاري، ومسلم، والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى. وقد أنزلت عليه: [والمرسلات عرفا] فنحن نأخذها من فيه رطبة إذ خرجت علينا حية، فقال: "اقتلوها"، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وقاها الله شركم كما وقاكم شرها"- وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عيله وسلم قال: "من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا بالله، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منا"-.
[497]:- قيل: إن أزواج الآخرة طاهرات من الحيض والنفاس، والبول والغائط، ومن كل أذى يكون في نساء الدنيا، كما قال تعالى: [ولهم فيها أزواج مطهرة] وكذلك خلقت حواء حتى عصيت بالأكل من الشجرة، فلما عصيت قال الله لها: إني خلقتك وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة.
[498]:- هذا حديث صحيح- ومن ابتلي بوسوسة الشيطان في أي عمل من أعماله فالدواء هو الإعراض عنه، وعدم الالفتات إليه، والثقة بالله، والتعوذ به.
[499]:- كيف يكون هذا وخمر الآخرة لا يغتال العقول، كما قال تعالى: [لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون]، ونقل (ق) عن ابن العربي فساد هذا القول عقلا ونقلا، والعجب من سكوت ابن عطية رحمه الله على نسبة هذا إلى سعيد بن المسيب التابعي الجليل. والحق أنه أكل ناسيا كما قال تعالى: [ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما]، ومن الملاحظ أن أبا محمد بن عطية رحمه الله جرى هنا وراء القصص الذي لا يتوقف عليه فهم الآية الكريمة. والعصمة من الله وحده.
[500]:- والصواب أن إخراج آدم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرامه وجعله (هو وأخيار ذريته) خليفة في الآرض، لعمارتها وإصلاحها بوحدانية الله وعبادته، وإقامة أحكامه بين عباده.
[501]:- يرى الزمخشري أن قوله تعالى: (اهبطوا منها جميعا) خطاب لآدم وحواء خاصة، قال: وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) قال: ويدل على ذلك قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عيهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، ومعنى قوله تعالى: (بعضكم لبعض عدو) ما عليه الناس من التعادي والتباغي، وتضليل بعضهم بعضا- وهذا ظاهر من حيث أن المودة والرحمة التي جعلها الله بين كل زوجين قد تتعرض لوسوسة الشيطان، فإن أصغيا له، وخدعا بوسوسته انقلب ذلك عداوة وحربا وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم). وهناك رأي آخر، ولعله أظهر: وهو أن يعود الضمير إلى آدم وزوجه وإبليس، وهم ثلاثة قد تقدم ذكرهم، فلماذا يعود الضمير على بعضهم دون الجميع مع أن اللفظ والمعنى يقتضي ذلك؟ وأما قوله تعالى في صورة طه: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) فهذا خطاب لاثنين، فإما أن يرجع ذلك إلى آدم وزوجه، وإما أن يرجع إلى آدم وإبليس. ولم تذكر الزوجة لأنها تبع لآدم، وعلى هذا فالعداوة المداوة المذكورة للمخاطبين بالهبوط هي بين آدم وإبليس والأمر ظاهر، وأما على رجوعه إلى آدم وزوجته فتكون الآية قد اشتملت على أمرين. أحدهما: أمره تعالى لآدم زوجته بالهبوك، والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه وبين إبليس، ولذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأول، ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا لقوله تعالى: (إن هذا عدو لك ولزوجك) ولقوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخدوه عدوا). وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع دون التثنية، وأما الهبوط فتارة يذكر لفظ الإفراد، وتارة بالتثنية، وتارة بالجمع، فحيث ورد بالإفراد كما في سورة (الأعراف) فهو لأبليس وحده. وحيث ورد بصيغة الجمع كما في سورة (البقرة) فهو لآدم وزوجه وإبليس. وحيث ورد بصيغة التثنية كما في سورة (طه) فإما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل، وأقدما على المعصية، وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلين وأصلا ذريتيهما والزوجة تبع لزوجها، فذكر حالهما ومآلهما ليكون ذلك عظة وعبرة لأولادهما، والذي يوضح أن الضمير في قوله تعالى: [اهبطا منها جميعا] لآدم وإبليس أن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه: فقال: [وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قال اهبطا منها جميعا] وهذا يدل على المخاطبين: آدم الذي عصى، وإبليس الذي زين المعصية، ودخلت الزوجة بحكم التبعية، فإن النقصود من هذه القصة: إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فما رآه الزمخشري أحد قولين، والذي يقويه النظر والدليل: هو ما تقدم من البيان والتفصيل، كما أشار إليه ابن القيم رحمه الله.
[502]:- من الآية 4 من سورة المنافقون.
[503]:- أحد خلفاء بني أمية، كان يميل إلى العدل، ويحسن إلى العلماء، ويرجع إلى الدين والقرآن، افتتح ولايته بخير، واختتمها بخير، افتتحها برد الصلاة إلى ميقاتها الأول، وقد كان قبله يؤخرون الصلاة عن وقتها- واختتمها باستخلافه لعمر بن عبد العزيز. مات بالتخمة رحمه الله سنة 98هـ، وعمره تسع وثلاثون سنة. انظر التفسير عند قوله تعالى: [فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار].
[504]:- روى الدارقطني، على سويد بن غفلة، قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي ابن أبي طالب، فما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة، قالت لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل علي وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال: فتلفعت بساجها، وقعدت حتى انقضت عدتها، وفبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت: (متاع قليل من حبيب مفارق) فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أني أبنت طلاقها لراجعتها ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. نقله (ق) عند قوله تعالى: [ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف] العفرة اسم قرية، وقد أطال النفس في هذه القضية صاحب وفيات الأعيان وفيه: (على قبر مقيم بقفرة) بالقاف انظره في ترجمة أبي المقدام رجاء بن حيوة الكندي.
[505]:- من الآية 25 من سورة إبراهيم.
[506]:- هي سيلان (واسمها الآن سيرى لانكا) وميسان: سجستان، والأُبلة: موضع بالعراق والله أعلم. وطبعا هي أقوال لا سند لها.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

الفاء عاطفة على قوله : { ولا تقربا } [ البقرة : 35 ] وحَقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفياً لأن وقوع الإزلال كان بعدَ مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأَمد القليل . والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب .

والإزلال جعل الغير زَالاًّ أي قائماً به الزلل وهو كالزَلَق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه ، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة ، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل .

والضمير في قوله : { عنها } يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائداً إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج . و { عن } في أصل معناها أي أزلهما إزلالاً ناشئاً عن الشجرة أي عن الأكل منها ، وتقدير المضاف دل عليه قوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } ، وليست { عن } للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي : الأوْلى أن { عن } بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقاً صادراً عن الهوى . ويجوز كون الضمير للجنة وتكون { عن } على ظاهرها والإزلال مجازاً في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله : « وكم منزل لولايَ طِحْتَ » .

وقولُه : { فأخرجهما مما كانا فيه } تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة ، والمراد من الموصول وصلته التعظيم ، كقولهم قد كان ما كان ، فإن جعلت الضمير في قوله : { عنها } عائداً إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصَّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكْري المجرَّد كما في قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أوْ هُم قائلون } [ الأعراف : 4 ] وقوله : { كذَّبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجِر } [ القمر : 9 ] . أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي .

وقرأ حمزة « فأزالهما » بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير { عنها } عائداً إلى الجنة لا إلى الشجرة . وقد نُبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خَرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضاراً لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى : { فغَشِيَهم من اليَمِّ ما غَشِيَهُم } [ طه : 78 ] .

وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله هنا : { بعضكم لبعض عدو } . وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر .

وعطفُ { وقلنا اهبطوا } بالواو دون الفاء لأنه ليس بمتُفرِّع عن الإخراج بل هو متقدم عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبةِ سياقِ ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك قدم قوله : { فأخرجهما } إثر قوله : { فأزلهما الشيطان } . ووجه جمع الضمير في { اهبطوا } قيل لأن هبوط آدم وحواءَ اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطاً لنسلهما ، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أُهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 12 ، 13 ] إلى قوله { قال اخرجْ منها مذءوماً مدحوراً } [ الأعراف : 18 ] إلى قوله { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ الأعراف : 19 ] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباطُ الأول كان إهباطَ مَنع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد ، فالذي أراه أن جمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله : { وكُلا منها رغداً } [ البقرة : 35 ] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس :

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم *** يقُولون لا تهلك أسىً وتجمل

وإنما له صاحبان لقوله : « قفا نبك » إلخ وقال تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } وسيأتي في سورة التحريم ( 4 ) .

وقوله : { بعضكم لبعض عدو } يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن . إن كان الضمير في { اهبطوا } لآدم وزوجه وإبليس ، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر ، إن كان ضمير { اهبطوا } لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاماً لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام :

* لأعْديتني بالحلم إن العلا تعدي *

ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضاً له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما ، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } [ الأعراف : 20 ] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير ، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما ، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة . وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقاً وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر ، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطِر الخير فكان جزاء مجردِ الهمِّ بالحسنة حسنةً ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهَم عشرَ حسنات كما ورد في الحديث الصحيح : " مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " ثم قال " ومَنْ همَّ بسيئة فعملها كُتبت له سيئةٌ واحدة " وجعل العفو عن حديث النفس مِنَّة من الله تعالى ومغفرة في حديث " إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها "

إن الله تعالى خلق الإنسان خَيِّراً سالماً من الشرور والخواطر الشريرة على صفة مَلَكية وهو معنى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] ثم جعله أطواراً فأولها طور تعليمِه النطقَ ووضعِ الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأُ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضاً ما علِمَه وجَهِلَهُ الآخر فكان إلهامُه اللغة مبدأَ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علَّم الناسُ بعضهم بعضاً ولذلك ترى الصبي يرى الشيءَ فيسرعُ إلى قرنائه يُناديهم ليَرَوْهُ معه حرصاً على إفادتهم فكان الإنسان معلِّماً بالطبع وكان ذلك معيناً على خيريته إلا أنه صالح أيضاً لاستعمال النطق في التمويه والكذب ؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلَّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خَلْق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طَور جديد هو المشار إليه بقوله : { ثم رَدَدْناه أَسفل سافلين } [ التين : 5 ] ، ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله : { إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات } [ التين : 6 ] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي : { فإما يأتينكم مني هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُداي } [ البقرة : 38 ] الآية .

وجملة { بعضكم لبعض عدو } إما مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإما جملة حال من ضير { اهبطوا } وهي اسمية خلت من الواو ، وفي اعتبار الجملة الاسمية الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية ، منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه ابن مالك وجماعة . والحق عندي أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببيِّه فاستغنت عن الواو نحو الآية ونحوجاء زيد يَدُه على رأسه أو أَبُوه يرافقه ، وإلا وجبت الواو إذ لا رابط حينئذ غيرُها نحو جاء زيد والشمسُ طالعة وقولِ تأبط شراً :

فخالط سَهْلَ الأرضِ لَمْ يَكْدَح الصَّفَا *** به كَدْحَةً والموتُ خَزيان يَنْظُر

وقوله : { ولكم في الأرض مستقر } ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير { اهبطوا } على التقادير كلها . والحين الوقت والمراد به وقت انقراض النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم ، ويحتمل أن يكون المراد من ضمير { لكم } التوزيعَ أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . وإنما كان ذلك متاعاً لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من لذات وتمتع بما وَهَبَنا الله من الملائمات . هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حدِّ قولك للجيش : هذه الأفْراس لكم أي لكل واحد منكم فرس .