المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

92- وهذا القرآن كتاب أنزلناه - كما أنزلنا التوراة - كثير الخير ، باق إلى يوم القيامة ، مصدق لما تقدمه من الكتب المنزلة ، مخبر عن نزولها ، لتبشر به المؤمنين ، وتخوف الكفار من أهل مكة ومن حولها في جميع أنحاء الأرض من غضب الله ، إذا لم يذعنوا له . والذين يصدقون بيوم الجزاء يحملهم رجاء الثواب والخوف من العقاب على الإيمان به ، وهم لذلك يحافظون على أداء صلاتهم كاملة مستوفاة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

وبعد أن أبطل - سبحانه - بالدليل قول من قال { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال - تعالى - :

{ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } .

والمعنى : وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى : كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا .

والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه ، إذا جعل له البركة ، ومعناها كثرة الخير ونماؤه .

وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله " وهذا ذكر مبارك أنزلناه " لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال ، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شىء بخلافه هناك .

ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا ، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى : أن بركته ثابتة مستقرة .

قال الإمام الرازى : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى فى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده فى هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده فى هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة .

وقوله { مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التى قبله فى إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وفى سائر أصول الشرائع التى لا تنسخ .

وقوله : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } أى : ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة ، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } وقال - تعالى - { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل ، وفى ذكرها بهذا الاسم المبنىء عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة .

ووجه الاقتصار على مكة ومن حوهلا فى هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم فى قوله - تعالى - قبل ذلك

{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } قال الآلوسى : ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى الله عليه وسلم فهو كقوله - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه " .

وقال صاحب المنار " وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب .

والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور ، فإن إرساله إلى قومه لا ينافى إرساله إلى غيرهم ، وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وسلم من آيات أخرى كقوله - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } وقوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ } .

أى : والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذى أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، وحرص على العمل الصالح الذى ينفعه .

ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أى يؤدونها فى أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها فى خشوع واطمئنان ، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطراً بعد الإيمان .

قال الإمام الرازى : " ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شىء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما فى قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } إى صلاتكم ، ولم يقع اسم الكفر على شىء من المعاصى إلا على ترك الصلاة ، ففى الحديث الشريف " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " فلا اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر فى هذا المقام " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

74

ويمضي السياق يحكي شيئا عن الكتاب الجديد ، الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله . فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات ، فليس بدعا من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام :

( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها . والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون ) . .

إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل ، وأن ينزل الله عليهم الكتب . وهذا الكتاب الجديد ، الذي ينكرون تنزيله ، هو كتاب مبارك . . وصدق الله . . فإنه والله لمبارك . .

مبارك بكل معاني البركة . . إنه مبارك في أصله . باركه الله وهو ينزله من عنده . ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل . . قلب محمد الطاهر الكريم الكبير . . ومبارك في حجمه ومحتواه . فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر ؛ ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام ، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه ! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر ؛ وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات ، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير ، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية . وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز - ولا في أضعاف أضعافه - عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات ! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر . . وإنه لمبارك في أثره . وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابا مباشرا عجيبا لطيف المدخل ؛ ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن ؛ فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل . ذلك أن به من الله سلطانا . وليس في قول القائلين من سلطان !

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب . وما نحن ببالغين لو مضينا شيئا أكثر من شهادة الله له بأنه( مبارك )ففيها فصل الخطاب !

( مصدق الذي بين يديه ) . .

فهو يصدق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عندالله - في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت : إنه من عندالله - هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة . أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا ، في حدود العقيدة الكبرى في الله .

والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون : إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله ؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول ؛ أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء . . وهم يقصدون الثناء على الإسلام ! . . هؤلاء لا يقرآون القرآن ! ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله - صلوات الله عليهم وسلامه - جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره . . وأنهم جميعا أخبروا الناس بحقيقة الرسول ، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا يعلم غيبا ، ولا يبسط أو يقبض رزقا . . وأنهم جميعا أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء . . وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول . . وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله . . إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية . التي تزعم أن أصول العقيدة - بما فيها العقائد السماوية - قد تطورت وترقت ، بتطور الأقوام وترقيها ! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن ! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير ! ! !

فأما حكمة إنزال هذا الكتاب ، فلكي ينذر به الرسول [ ص ] أهل مكة - أم القرى - وما حولها :

( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) . .

وسميت مكة أم القرى ، لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك ؛ وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعا ؛ ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ؛ ولم تكن دعوة عامة من قبل ؛ وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة ، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة !

وليس المقصود ، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين ، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها . فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله ، ليزعموا أن محمدا [ ص ] ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها . وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه ؛ فتوسع في الجزيرة كلها ، ثم هم أن يتخطاها . . لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها ! وذلك بعد هجرته إلى المدينة ، وقيام دولته بها ! . . وكذبوا . . ففي القرآن المكي ، وفي أوائل الدعوة ، قال الله سبحانه لرسوله [ ص ] ( وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين ) . . . [ الأنبياء : 107 ] . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرًا ) . [ سبأ : 28 ] ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء !

( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون ) . .

فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحسابا وجزاء ، يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولا يوحي إليه ؛ ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به ؛ بل إنهم ليجدون داعيا يدعوهم إلى هذا التصديق . كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم ، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله ؛ وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة . . فهي طبيعة نفس . . متى صدقت بالآخرة واستيقنتها ، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله ، وحرصت على الصلة بالله وطاعته . . وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

وقوله : { وَهَذَا كِتَابٌ } يعني : القرآن { أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني : مكة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أحياء العرب ، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، وقال { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقال { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] ، وقال { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 20 ] ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن : " وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " {[10963]} ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن ، { وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : يقومون بما افترض عليهم ، من أداء الصلوات في أوقاتها .


[10963]:صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

قوله { هذا } إشارة إلى القرآن ، و { مبارك } صفة له ، و { مصدق } كذلك وحذف التنوين من { مصدق } للإضافة وهي إضافة غير محضة لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفاً لنكرة ، و { الذي } في موضع المفعول ، والعامل فيه مصدر ، ولا يصلح أن يكون { مصدق } مع حذف التنوين منه يتسلط على { الذي } ، ويقدر حذف التنوين للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذاً في الشعر في قوله : [ المتقارب ]

فألْفَيْتُهُ غيْرَ مُسْتَعْتِبٍ . . . ولا ذَاكِر الله إلاَّ قَليلا{[5010]}

ولا يقاس عليه ، و { بين يديه } هي حال التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر ، وقالت فرقة { الذي بين يديه } القيامة .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة ، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى » أي أنت يا محمد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر » أي القرآن بمواعظه وأوامره ، واللام في { لتنذر } متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه ، و { أم القرى } مكة سميت بذلك لوجوه أربعة ، منها أنها منشأ الدين والشرع ، ومنها ما روي أن الأرض منها دحيت ، ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى ، ومنها ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات ، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى ، { ومن حولها } يريد أهل سائر الأرض ، و { حولها } ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره من استقر حولها ، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور ، و { يؤمنون } بالقرآن ويصدقون بحقيقته ، ثم قوى عز وجل مدحهم بأنهم «يحافظون على صلاتهم » التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات ، وقرأت الحسن بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم » بالجمع ، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع ، وإذا انضاقت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير .


[5010]:- سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تبارك وتعالى: {وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} الآية (60) من سورة (المائدة).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

{ وهذا كتاب } عطف على جملة { قل الله } [ الأنعام : 91 ] ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه . والإشارة إلى القرآن لأنّ المحاولة في شأنه من ادّعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التّوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان .

وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناءُ فعل { أنزلنا } على خبر اسم الإشارة ، وهو { كتاب } الّذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التّقوية ، كأنّه قيل : وهَذا أنزلناه .

وجَعْل { كتاب } الّذي حقّه أن يكون مفعول { أنزلنا } مسنداً إليه ، ونصب فعل { أنزلنا } لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتّعبير عنه مرّتين ، وذلك كلّه للتّنويه بشأن هذا الكتاب .

وجملة : { أنزلناه } يجوز أن تكون حالاً من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره . و { مبارك } خبر ثان . والمبارك اسم مفعول من بَاركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك له ، إذا جعل له البركة . والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه . قال تعالى : { أن بُورك من في النّار ومن حولها } [ النمل : 8 ] ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .

ولعلّ قولهم ( بارك فيه ) إنّما يتعلّق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأمّا ( باركه ) فيتعلّق به ما كانت البركة صفة له ، و ( بَارك عليه ) جعل البركة متمكّنة منه ، ( وبارك له ) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له .

والقرآن مبارَك لأنّه يدلّ على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأنّ البركة جعلت في ألفاظه ، ولأنّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدّنيا وفي الآخرة ، ولأنّه مشتمل على ما في العمل به كمال النّفس وطهارتها بالمعارف النّظريّة ثمّ العمليّة . فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه . قال فخر الدّين « قد جرت سنّة الله تعالى بأنّ الباحث عنه ( أي عن هذا الكتاب ) المتمسّك به يحصل له عزّ الدّنيا وسعادة الآخرة . وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النّقليّة والعقليّة فلم يَحْصُل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السّعادات في الدّنيا مثلُ ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم ( يعني التّفسير ) .

و { مصدّق } خبر عن { كتاب } بدون عطف . والمُصدّق تقدّم عند قوله تعالى : { مُصدّقاً لما بين يَديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وقوله { ومصدّقاً لما بين يدي } وفي سورة [ آل عمران : 50 ] . والّذي } من قوله : { الّذي بين يديه } اسم موصول مراد به معنى جَمع . وإذ قد كان جمع الّذي وهو لا يستعمل في كلام العرب إلاّ إذا أريد به العَاقل وشِبهه ، نحو { إنّ الّذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم } [ الأعراف : 194 ] لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفاً . فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلاّ الّذي المفرد ، نحو قوله تعالى : { والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون } [ الزمر : 33 ] .

والمراد ب { الّذي بين يديه } ما تقدّمه من كتب الأنبياء ، وأخصّها التّوراة والإنجيل والزّبور ، لأنّها آخر ما تداوله النّاس من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وهو مصدّق الكتب النّازلة قبل هذه الثّلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى .

ومعنى كون القرآن مصدّقها من وجهين ، أحدهما : أنّ في هذه الكتب الوعد بمجيء الرّسول المقفّى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودلّ على أنّها من عند الله .

وثانيهما : أنّ القرآن مصدّق أنبيائها وصدّقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدّين والشّريعة . ثم إنّ ما جاء به من الأحكام الّتي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها . وأمّا ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشّريعة فذلك قد يبيّن فيه أنّه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأنّ الله أراد التّيسير بهذه الأمّة .

ومعنى : { بين يديه } ما سبقه ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { فإنّه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وعند قوله : { ومصّدقاً لما بين يديّ من التّوراة } في سورة [ آل عمران : 50 ] .

وأمّا جملة { ولتنذر أمّ القرى } فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق { لتنذر } بفعل { أنزلناه } ، ومِن جعْل المجرور خبراً عن { كتاب } خلافاً للتفتزاني ، إذ الخبر إذا كان مجروراً لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبراً آخر ل { كتاب } ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبىء عنه السّياق . والتّقدير : ليُؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين . ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر . وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح . ونظيره قوله تعالى : { هذا بلاغ للنّاس ولِينْذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أولوا الألباب } في سورة [ إبراهيم : 52 ] .

ووقع في « الكشاف » أنّ { ولتنذر } معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب ، كأنّه قيل : أنزلناه للبركات وتصديققِ ما تقدّمَه والإنذارِ اه . وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأنّ لفظ « بلاغ » اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل ، و« للنّاس » متعلّق به واللاّم فيه للتّبليغ لا للتّعليل ، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلاّ يؤخذوا على غفلة وليُنْذَروا به .

والإنذار : الإخبار بما فيه توقّع ضرّ ، وضدّه البشارة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً } في سورة [ البقرة : 119 ] . واقتُصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] .

وأمّ القرى : مَكّة ، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يُرجع إليه ويلتفّ حوله ، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة ، ومنه سمّيت الراية أمّاً ، وسُمّي أعلى الرأس أمّ الرأس ، والفاتحة أمّ القرآن .

وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة . وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلاّ بعدها ، فسمّاها العرب أمّ القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام .

وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلِها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى : { واسألْ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وقد دلّ عليه قوله { ومن حولها } ، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خُزاعة ، وسعد بن بَكْر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة .

ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] ، إذ السّورة مكّية وليس في التّعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتّى نتكلّف الادّعاء أنّ { من حولها } مراد به جميع أهل الأرض .

وقرأ الجمهور { ولتنذر أمّ القرى } بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم { ولينذر } بياء الغائب على أن يكون الضّمير عائداً إلى { كتاب } .

وقوله : { والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } احتراس من شمول الإنذار للمؤمنين الّذين هم يومئذٍ بمكّة وحولها المعروفون بهذه الصّلة دون غيرهم من أهل مكّة ، ولذلك عبّر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللّقب لهم ، وهو مميّزهم عن أهل الشّرك لأنّ أهل الشّرك أنكروا الآخرة . وليس في هذا الموصول إيذان بالتّعليل ، فإنّ اليهود والنّصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنّهم لم يكونوا من أهل مكّة يومئذٍ .

وأخبر عن المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالقرآن تعريضاً بأنّهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنّهم أحقّاء بضدّه وهو البشارة .

وزادهم ثناء بقوله : { وهم على صلاتهم يحافظون } إيذاناً بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصّلاة هي العمل المختصّ بالمسلمين ، فإنّ الحجّ كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله : { هدى للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة } [ البقرة : 2 ، 3 ] ولم يكن الححّ مشروعاً للمسلمين في مدّة نزول هذه السّورة .