المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

44- أتطلبون من الناس أن يتوسعوا في الخير ، وأن يلتزموا الطاعة ويتجنبوا المعصية ، ثم لا تعملون بما تقولون ، ولا تلتزمون بما تطلبون ؟ ، وفى ذلك تضييع لأنفسكم كأنكم تنسونها ، مع أنكم تقرءون التوراة وفيها التهديد والوعيد على مخالفة القول للعمل ، أليس لديكم عقل يردعكم عن هذا التصرف الذميم ؟

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :

{ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . }

الأمر : طلب إيجاد الفعل . والبر : اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير . والنسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم . والعقل : يطلق على قوة في النفس ، تستعد بها لقبول العلم . وإدراك الشيء .

والمعنى : كيف يليق بكم يا معشر اليهود ، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل ، وألوان الخيرات ، أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأمروا بما تأمرون به غيركم ، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم ، وتدركون أي عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه ، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي تردتيم فيه ، ويذحركم من سوء عاقبته .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ، ولذى قرابته ، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون بالناس بذلك ولا يفعلونه .

والمراد بالنسيان في الآية الكريمة ، تركهم العمل بما يأمرون به غيرهم ، لأن الناسي حقيقة ليس مؤاخذا على مانسيه ، فلا يستحق هذا التوبيخ الشديد الوارد في الآية الكريمة ، وليس التوبيخ متوجها إلى كونهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، لأنهن فعل محمود ، وإنما التوبيخ متوجه إلى كونهم تركوا العمل بما يرشدون إليه سواهم ، فهم يداوون الناس ، وقلوبهم مليئة بالأمراض والعلل .

وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أسمى أنواع الهداية وآلإرشاد السليم ، فإن من ألطف الأساليب في الخطاب والتوجيه ، أن يكون للموجه إليه النصح صفة من شأنها أن تسوقه إلى خير ، ولكنه ينساق إلى غيره من أنواع الشرور فيقع فعله من الناس موقع الدهشة والغرابة ، فيذكر له مسدى النصح تلك الصفة في معرض الاستفهام بغية تذكيره بأن ما صدر منه لا يلتقى مع ما عرف عنه .

وتطبيقاً لهذا المبدأ نقول : إن المخاطبين بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يعقلون ويدركون الأشياء ، وبهذا الإِدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع ، ولكنهم لم يسيروا على مقنضي ما لديهم من عقول ، حيث كانوا يأمرون الناس بالخير ، ويصرفون أنفسهم عنه ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما أتيتم من أفعال سقيمة . يجعل الناظر إليكم يحكم عليكم بلا أدنى تردد بأنكم لا عقول لكم ، ولا فضيلة لديكم ، وفي هذا الأسلوب ما فيه من الترغيب في فعل الخير ؛ والترهيب من فعل الشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

40

ثم ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم :

( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ ) . .

ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل .

إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه ؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان يفعل أحبار يهود !

والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .

إن الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .

والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

يقول تعالى : كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر ، وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله ؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ؛ فتنتبهوا من رَقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم . وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه ، وبالبر ، ويخالفون ، فَعَيّرهم الله ، عز وجل . وكذلك قال السدي .

وقال ابن جريج : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس ، فعيرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة ، وتتركون أنفسكم ، أي : وأنتم{[1654]} تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون{[1655]} من كتابي .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم{[1656]} به من إقام الصلاة ، وتنسون أنفسكم .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن ، حدثنا مُسلم الجَرْمي ، حدثنا مَخْلَد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون }

والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم{[1657]} في حق أنفسهم ، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف [ معروف ]{[1658]} وهو واجب على العالم ، ولكن [ الواجب و ]{[1659]} الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم ، كما قال شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] . فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف ، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية ؛ فإنه لا حجة لهم فيها . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف ، وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، [ قال مالك عن ربيعة : سمعت سعيد بن جبير يقول له : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . وقال مالك : وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ؟ قلت ]{[1660]} ولكنه - والحالة هذه - مذموم على ترك{[1661]} الطاعة وفعله المعصية ، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك ، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري ، قالا حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا علي بن سليمان الكلبي ، حدثنا الأعمش ، عن أبي تَميمة الهُجَيمي ، عن جندب بن{[1662]} عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه " {[1663]} .

هذا حديث غريب من هذا الوجه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا وَكِيع ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد هو ابن جدعان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض{[1664]} من نار . قال : قلت : من هؤلاء ؟ " قالوا : خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟{[1665]} .

ورواه عبد بن حميد في مسنده ، وتفسيره ، عن الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة به .

ورواه ابن مردويه في تفسيره ، من حديث يونس بن محمد المؤدب ، والحجاج بن مِنْهَال ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به .

وكذا رواه يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة به .

ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن قيس ، عن علي بن زيد{[1666]} عن ثمامة ، عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار . قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : هؤلاء خطباء أمتك ، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم .

وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه - أيضًا - من حديث هشام الدَّستَوائيّ ، عن المغيرة - يعني ابن حبيب - ختن مالك بن دينار ، عن مالك بن دينار ، عن ثمامة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تُقْرض شفاههم{[1667]} ، فقال : " يا جبريل ، من هؤلاء ؟ " قال : هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؛ أفلا يعقلون ؟{[1668]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : قيل لأسامة - وأنا رديفه - : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم . إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا - لا أحب أن أكون أول من افتتحه ، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس . وإن كان عليّ أميرًا - بعد أن{[1669]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، قالوا : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : " يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه{[1670]} ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهلُ النار ، فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " {[1671]} .

ورواه البخاري ومسلم ، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، به نحوه{[1672]} .

[ وقال أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء " {[1673]} . وقد ورد في بعض الآثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم . وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } [ الزمر : 9 ] . وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون : بم دخلتم النار ؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم ، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل " {[1674]} رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان{[1675]} الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري{[1676]} عن عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره ]{[1677]} .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه جاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أو بلغت ذلك ؟ قال : أرجو . قال : إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل . قال : وما هن ؟ قال : قوله عز وجل{[1678]} { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرف الثاني . قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فالحرفَ الثالث . قال : قول العبد الصالح شعيب ، عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] أحكمت هذه الآية ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك .

رواه ابن مردويه في تفسيره .

وقال الطبراني{[1679]} حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا زيد بن الحريش ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العوام بن حوشب ، عن [ سعيد بن ]{[1680]} المسيب بن رافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم : " من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال ، أو دعا إليه " {[1681]} .

إسناده فيه ضعف ، وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] وقوله إخبارا عن شعيب : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .

وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :

ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الناس فما باله *** يستفتح الناس ويسترقد

الرزق مقسوم على من ترى *** يسقى له الأبيض والأسود

وقال بعضهم : جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت ، ثم أنشأ يقول :

وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض

قال : فضج الناس بالبكاء . وقال أبو العتاهية الشاعر :

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى *** وريح الخطايا من شأنك تقطع . . .

وقال أبو الأسود الدؤلي :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال : دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة ، فقيل لي في المنام : هي امرأة في الكوفة يقال لها : ميمونة السوداء ، فقصدت الكوفة لأراها . فقيل لي : هي ترعى غنما بواد هناك ، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه ، ولا يسطو الذئاب عليهن . فلما سلمت قالت : يا ابن زيد ، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم . فقالت : إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم . فقلت لها : عظيني . فقالت : يا عجبا من واعظ يوعظ ، ثم قالت : يا ابن زيد ، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها ، يا ابن زيد ، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بَعْدَ القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول :

يا واعظًا قام لا حساب *** يزجر قوما عن الذنوب

تنه عنه وأنت السقيم حقا *** هذا من المنكر العجيب

تنه عن الغي والتمادي *** وأنت في النهي كالمريب

لو كنت أصلحت قبل هذا *** غيك أو تبت من قريب

كان لما قلت يا حبيبي *** موضع صدق من القلوب{[1682]}


[1654]:في جـ: "أي أنتم".
[1655]:في جـ: "بما تعملون".
[1656]:في جـ: "مما أمرتكم".
[1657]:في جـ: "خطاياهم".
[1658]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1659]:زيادة من جـ، ط، أ.
[1660]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1661]:في جـ، ب: "على تركه".
[1662]:في جـ: "عن".
[1663]:المعجم الكبير (2/165) وقال الهيثمي في المجمع (1/185): "رجاله موثقون".
[1664]:في جـ، ب: "تقرض شفاههم بمقاريض".
[1665]:المسند (3/120).
[1666]:في أ: "بن يزيد".
[1667]:في جـ، ط، ب، أ، و: "تقرض من شفاههم".
[1668]:صحيح ابن حبان برقم (35) "موارد" وتفسير ابن أبي حاتم (1/151).
[1669]:في جـ، ب: "إذ".
[1670]:في جـ: "شفتاه".
[1671]:المسند (5/205).
[1672]:صحيح البخاري برقم (3267) وصحيح مسلم برقم (2989).
[1673]:ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الإمام أحمد وقال: "هذا حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر، ولم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل". وقال عبد الله بن أحمد: "هذا حديث منكر حدثني به أبي، وما حدثني به إلا مرة".
[1674]:انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/336).
[1675]:في جـ: "حماد"، والصواب ما أثبتناه.
[1676]:في جـ: "الزاهري"، والصواب ما أثبتناه.
[1677]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1678]:في جـ: "قوله تعالى".
[1679]:في أ: "القرطبي".
[1680]:زيادة من ط، أ، و.
[1681]:ورواه أبو نعيم في الحلية (2/7) من طريق الطبراني، وقال الهيثمي في المجمع (7/276): "فيه عبد الله بن خراش وثقه ابن حبان وقال: يخطئ، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات
[1682]:انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (15/253).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (44)

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 44 )

وقوله تعالى : { أتأمرون الناس } خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ( {[551]} ) ، و «البر » يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، { وتنسون } بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم }( {[552]} ) [ التوبة : 67 ] .

واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم » .

وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه .

وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي » . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون .

وقوله تعالى : { وأنتم تتلون } معناه : تدرسون وتقرؤون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و { الكتاب } التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة .

وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } معناه : أفلا تمنعون أنفسكم( {[553]} ) من مواقعة هذه الحال المردية لكم ؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع .


[551]:-هذا تنديد بالعلماء والرؤساء الذين يأمرون غيرهم وينسون أنفسهم، والقدوة الصالحة هي التي تجمع بين القول والعمل، وهي التي تبدأ بنفسها وتنهاها عن غيها، ثم تقصد غيرها فتؤدي إليها أمر ربها، ونهى خالقها بحكمة وإخلاص، ومن شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه إذا تأثر به المأمور، وإذا خرج من ظاهره لم يتجاوز ظاهر غيره، فالسبب إذا استمر واستقام كان له تأثير بإذن الله تعالى في النفوس، ومن هنا يدرك أن انحراف الناس في حياتهم ناتج عن عدم وجود القدرة الصالحة في الدين والدنيا، وهذا بحسب الأغلب وإلا فقد يكون ذلك ناشئا عن عناد.
[552]:- من الآية 67 من سورة التوبة.
[553]:- إشارة إلى تعديته، ويمكن أن ينزل منزلة اللازمة، وكيفما كان فهو غاية في الشناعة والقبح.