5- اليوم - منذ نزول هذه الآية - أحل الله لك كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحل لكم طعام أهل الكتاب ، وذبائحهم ، مما لم يرد نص بتحريمه ، كما أحل لهم طعامكم ، وأحل لكم زواج الحرائر والعفائف من المؤمنات ومن أهل الكتاب ، إذا أديتم لهن مهورهن قاصدين الزواج ، غير مستبيحين العلاقات غير الشرعية علانية ، أو بطريق اتخاذ الخلائل . ومن يجحد الدين فقد ضاع ثواب عمله الذي كان يظن أنه قربى ، وهو في الآخرة من الهالكين .
ثم حكى - سبحانه - جانباً آخر من مظاهر نعمه على عباده ، ورحمته بهم وتيسيره عليهم في أمور دينهم ودنياهم فقال :
{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }
قوله : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } . يصح أن يراد به اليوم الذي نزلت فيه . فإنه يجوز أن تكون هذه الآية وما قبلها من قوله - تعالى - { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } قد نزلت جميعها في يوم واحد وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .
ويصح أن يراد به الزمان الحاضر مع ما يتصل به من الماضي والمستقبل . والراد بالطيبات : ما يستطاب ويشتهي مما أحله الشرع .
والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب : ذبائحهم خاصة . وهذا مذهب جمهور العلماء .
قالوا : لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب ، وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح . فحمل هذه الآية عليه أولى ، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره . وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم .
وقيل المراد بطعام أهل الكتاب هنا : الخبز والحبوب والفاكهة وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تذكية . وينسب هذا القول إلى بعض طوائف الشيعة .
وقيل المراد به : ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة . وقد روى هذا القول عن ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وقتادة ومجاهد وغيرهم .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .
ال الآلوسي : وحكم الصابئين كحكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة . وقال صاحباه الصائبة صنفان : صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله - كعزير وعيسى - فقال ابن عمر : لا تحل . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل . وهو قول الشعبي وعطاء قالا : " فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون " .
والمعنى : إن الله أسبغ عليكم نعمه - أيها المؤمنون - وأكمل لكم دينه ، ويسر لكم شرعه ، ومن مظاهر ذلك أنه - سبحانه - أحل لكم التمتع بالطيبات ، كما أحل لكم أن تأكلوا من ذبائح أهل الكتاب . وأن تطعموهم من طعامكم .
قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه - تعالى وتقدس - .
وإنما قال : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة .
فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المنكاحات فإنها في جانب واحد ، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة ، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن ، والله - تعالى - لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا ، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً .
قال بعض العلماء : والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم ، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح ، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص ، وأما غير الذبائح فهو قسمان :
القسم الأول : ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر وهو حلال بالاتفاق .
والقسم الثاني : ما لهم يه عمل وهو قسمان - أيضاً - أحدهما ، ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء . فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ، ومن هؤلاء : ابن عباس ، لأن احتمال النجاسة ثابت ، وهو يمنع الحل . وقد تبع هذا الرأي بعض المالكية ، ومن هؤلاء الطرطوسي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجري مجرى الجبن الزيت ، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه . ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة ، والثاني : المحرم ، وهو ما ثبت أنه قد دخله أجزاء من الخمر أو الميتة ، أو الخنزير ، أو غير ذلك من المحرمات .
ثم بين - سبحانه - حكم نكاح نساء أهل الكتاب بعد بيان حكم ذبائحهم فقال { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } .
وقوله : { والمحصنات } عطف على { الطيبات } وهو جمع محصنة .
والإِحصان يطلق على معان منها : الإِسلام . ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات ، ويطلق على التزوج ، ولا موضع له هنا - أيضاً - لأنه لا يحل تزوج ذات الزوج .
ويطلق على العفة وعلى الحرية وهذان المعنيان هما المختاران هنا .
فمن الفقهاء من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلف العفة ، والعمل على اختيار من هذه صفتها .
ومنهم من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا : الحرائر أي أنه لا يحل الزواج بنساء أهل الكتاب إلا إذا كن حرائر .
والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن . وعبر عن المهر بالأجر لتأكيد وجوبه . وعدم الاستهانة بأي حق من حقوقهن .
وقوله : محصنين - بكسر الصاد - أي متعففين بالزواج عن اقتراب الفواحش .
يقال أحصن الرجل فهو محصن أي : تعفف فهو متعفف وأحصن بالزواج الرجل فهو محصن - بفتح الصاد - أي : أعفه بالزواج عن الوقوع في الفاحشة .
وقوله { مُسَافِحِينَ } جمع مسافح . والسفاح . الزنا . يقال : سافح الرجل المرأة إذا ارتكب معها فاحشة الزنا ، وسمى الزاني مسافحاً .
لأنه سفح ماءه أي : صبه ضائعاً .
وقوله : { أَخْدَانٍ } جمع خدان - بكسر الخاء وسكون الدال - بمعنى الصديق . ويطلق على الذكر والأنثى .
والمراد بالخدن هنا . المرأة البغي التي يخادنها الرجل أي يصادقها ليرتكب معها فاحشة الزنا . وغالبا ما تكون خاصة به .
والمعنى : وكما أحل الله لكم - أيها المؤمنون - الطيبات من الرزق ، وأحل لكم ذبائح أهل الكتاب ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، فقد أحل لكم - أيضاً - نكاح المحصنات من المؤمنات . أي العفيفات الحرائر لأنهن أصون لعرضكم . وأنقى لنطفكم ، وأحل لكم نكاح النساء المحصنات أيِ : الحرائر العفيفات { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي : من اليهود والنصارى .
قال الآلوسي : وتخصيص المحصنات بالذكر في الموضعين ، للحث على ما هو الأولى والأليق ، لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإِماء المسلمات بشرطه ، صحيح بالاتفاق . وكذا نكاح غير العفائف منهن . وأما الإِماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم " .
وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن ، وهي عوض عن الاستمتاع بهن .
وقالوا : وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد ، إذ لا تتوقف صحة العقد على دفع المهر ، إلا أن الأولى هو إيتاء الصداق قبل الدخول .
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } أمر لهم بالعفة والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وقوله { مُحْصِنِينَ } حال في فاعل { آتَيْتُمُوهُنَّ } .
وقوله : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } صفة لمحصنين ، أو حال من الضمير المستتر في محصنين .
وقوله : { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } يحتمل أن يكون مجروراً على أنه عطف على مسافحين ، وزيدت فيه " لا " لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير . ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه عطف على { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
والمعنى : أبحنا لكم الزواج بالكتابيات المحصنات لتشكروا الله - تعالى - على تيسيره لكم فيما شرع ، ولتطلبوا من وراء زواجكم العفة والبعد عن الفواحش ، والصون لأنفسكم ولأنفس أزواجكم عن انتهاك حرمات الله في السر أو العلن .
وقدم - سبحانه - المحصنات من المؤمنات على المحصنات من الذين أوتوا الكتاب للتنبيه على أن المحصنات من المؤمنات أحق باختيار الزواج بهن من غيرهن ، وأن المحصنة المؤمنة الزواج بها أولى وأجدر وأحسن من الزواج بالمحصنة الكتابية .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .
أي : ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله ، أي : خاب سعيه . وفسد عمله الذي عمله . وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة : الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته - سبحانه - .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من الآية الكريمة .
1 - إباحة التمتع بالطيبات التي أنعم بها - سبحانه - على عباده ، ولم يرد نص بحرمتها .
2 - إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب وإباحة إطعامهم من طعامنا .
3 - الترغيب في نكاح المرأة المحصنة أي التي أحصنت نفسها عن الفواحش وصانتا عن كل ريبة واعتصمت بالعفاف والشرف ، وكان سلوكها المستقيم دليلا على أنها متمسكة بتعاليم دينها . وبالآداب الحميدة التي جاءت بها شريعة الإِسلام .
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
ومعنى ( تربت يداك ) : افتقرت وندمت إن لم تبحث عن ذات الدين ، وتجعلها محط طلبك للزواج بها .
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن امرأتي لا تمنع يد لامس . قال صلى الله عليه وسلم : " غربها - أي طلقها - " . قال : أخاف أن تتبعها نفسي - أي : أرتكب معها ما نهى الله عنه بعد طلاقها - قال صلى الله عليه وسلم : " فاستمتع بها " أي أبقها مع المحافظة عليها .
4 - إباحة نكاح النساء الكتابيات - وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، لأن هذا هو الظاهر من معى قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } .
قال ابن كثير : وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله - تعالى - { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } فحجز الناس عنهن حتى نزلت : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب .
وقد تزود جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية ، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها . وإلا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأن أهل الكتاب انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع . كقوله - تعالى - { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أخذه الجمهور على عمومه ، فأباحوا التزوج من أهل الكتاب وإن غيروا وبدلوا ، ذميين كانوا أو حربيين . وقيد جماعة بالذميين دون الحربيين .
وذهب جماعة من السلف إلى أن أهل الكتاب قد غيروا أو بدلوا وعبدوا المسيح .
وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة . فهم بذلك والمشركون في العقيدة سواء وقد حرم الله التزوج من المشركات ونسب هذا الرأي إلى عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة .
وتأولوا الآية بوجوه أقر بها أنها رخصة خاصة في الوقت الذي نزلت فيه . قال عطاء : إنما رخص الله في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت ؛ لأنه كان في المسلمات قلة . أما الآن ففيهن الكثرة العظيمة ، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة .
والذي نراه في المسألة أنه ليس في الآية ما يدل على أنه رخصة ، ولا نعلم في الشريعة ما يدل على أنه رخصة . والآية دالة على الإِباحة المطلقة ، ولم تقيد بوقت خاص ، ولا بحالة خاصة .
نعم إن ما نراه اليوم في بعض المسلمين من رغبة التزوج بنساء الإِفرنج لا لغاية سوى أنها إفرنجية . ثم يضع نفسه وأولاده تحت تصرفها فتنشئهم على تقاليدها وعاداتها التي تأباها تعاليم الإِسلام .
نعم إن ما نراه من كل ذلك يجعلنا نوجب على الحكومات التي تدين بالإِسلام وتغار على قوميتها وشعائرها . . أن تمنع من التزوج بالكتابيات ، وأن تضع حدا لهؤلاء الذين ينسلخون عن قوامتهم على المرأة . حفاظاً على مبادئ الدين وعلى عقيدة أولاد المسلمين .
وإن العمل على تقييد هذا احلكم في التشريع الإِسلامي أو منعه ، لألزم وأوجب مما تقوم به بعض الحكومات الإِسلامية ، أو تحاول أن تقوم به ، من تحديد سن الزواج للفتاة . وتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، وما إلى ذلك من التشريعات التي ينشط لها كثير من رجال الحكم ، سيراً وراء مدنية الغرب المظلمة .
ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات للمعاني التي أشرنا إليها لمما يوجب الوقوف أمام هذه الإِباحة التي أصبحت حالتنا لا تتفق والغرض المقصود منها .
وهذا معىن تشهد به كليات الدين وقواعده التي يتجلى فيها شدة حرصه على حفظ شخصية الأمة الإِسلامية ، وعدم انحلالها وفنائها في غيرها .
ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح :
( اليوم أحل لكم الطيبات . وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وطعامكم حل لهم . والمحصنات من المؤمنات . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) . .
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله :
فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه ؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع . فهي من الطيبات
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية ؛ في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي " في دار الإسلام " ، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب . .
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ؛ ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين - أو منبوذين - إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك . ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة . . وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم - وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر - طيبات للمسلمين ، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات . وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل . فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية ، أو البروتستانتية ، أو المارونية المسيحية . ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة !
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي . فيما يختص بالعشرة والسلوك [ أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة ] .
وشرط حل المحصنات الكتابيات ، هو شرط حل المحصنات المؤمنات :
( إذا آتيتموهن أجورهن محصنين ، غير مسافحين ، ولا متخذي أخدان ) .
ذلك أن تؤدى المهور ، بقصد النكاح الشرعي ، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها ، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة . . والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل ؛ والمخادنه أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج . . وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية ، ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي . قبل أن يطهره الإسلام ، ويزكيه ، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة . .
ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد ، وفيه تهديد : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين . . إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان ؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان ؛ أو هو دليل الإيمان . فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده . والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه ، ولا يقر عليه . . والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما . . وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل . فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت . . وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا . .
وهذا التعقيب الشديد ، والتهديد المخيف ، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح . . فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج ؛ وأن كل جزئية فيه هي " الدين " الذي لا هوادة في الخلاف عنه ، ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير .
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث ، وما أحله لهم من الطيبات ، قال بعده : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }
ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ } قال ابن عباس ، وأبو أمامة ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والحسن ، ومَكْحول ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيَّان : يعني ذبائحهم .
وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن ذبائحهم حلال للمسلمين ؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم ، تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر . [ قال ]{[9181]} فاحتضنته{[9182]} وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدًا ، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم . {[9183]}
فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة ، وهذا ظاهر . واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل{[9184]} ما يعتقد اليهود تحريمه{[9185]} من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم . فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ؛ لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قالوا : وهذا ليس من طعامهم . واستدل عليهم{[9186]} الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ؛ لأنه قضية عين ، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم .
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح : أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة ، وقد سَمّوا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور ؛ فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، فقتلت ببشر بن البراء . {[9187]}
ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا .
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة ، يعني : ودَكا زنخا{[9188]}
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب ، عز وجل ، ورحم المسلمين ، فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب .
وفي هذا الذي قاله مكحول ، رحمه الله ، نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون بذلك ؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم ، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة ، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .
[ و ]{[9189]} قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن{[9190]} محمد بن عَبِيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب ؛ لأنهم{[9191]} إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .
وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، والحسن ؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .
وأما المجوس ، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم{[9192]} لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ! يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، {[9193]} ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري : عن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر{[9194]} ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان{[9195]} لا يحل{[9196]}
وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى ، أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك ، فأما{[9197]} الحديث الذي فيه : " لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي " {[9198]} فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } فقيل :{[9199]} أراد بالمحصنات : الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد . وإنما قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ، فيحتمل{[9200]} أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه . وهو{[9201]} قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل{[9202]} في المثل : " حَشفَا{[9203]} وسَوء كيلة " . {[9204]} {[9205]} والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات : العفيفات عن الزنا ، كما قال في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] .
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة ؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة . وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : المراد بذلك : الذميات دون الحربيات ؛ لقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ[ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] } [ التوبة : 29 ] {[9206]}
وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المُزَنِيّ - حدثنا إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك الغفاري ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس [ من ]{[9207]} نساء أهل الكتاب .
وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا ، أخذا بهذه الآية الكريمة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فجعلوا{[9208]} هذه مخصصة للآية التي البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها{[9209]} ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كما قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] وكقوله{[9210]} { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } الآية [ آل عمران : 20 ] ، وقوله : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي :{[9211]} مهورهن ، أي : كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور{[9212]} عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله ، وإبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها : أنه يفرق بينه وبينها ، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم . .
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة - عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم : الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، { وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين{[9213]} لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا ؛ لهذه الآية وللحديث الآخر : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله . " {[9214]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشّار ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[9215]} لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب . {[9216]}
وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [ إن شاء الله تعالى ]{[9217]} عند قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
{ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يتناول الذبائح وغيرها ، ويعم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، واستثنى علي رضي الله عنه نصارى بني تغلب وقال : ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر . ولا يلحق بهم المجوس في ذلك وإن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية لقوله عليه الصلاة والسلام : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم أن تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك . { والمحصنات من المؤمنات } أي الحرائر أو العفائف ، وتخصيصهن بعث على ما هو الأولى . { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وإن كن حربيات وقال ابن عباس لا تحل الحربيات . { إذا آتيتموهن أجورهن } مهورهن وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى . وقيل المراد بإيتائها التزامها { محصنين } أعفاء بالنكاح . { غير مسافحين } غير مجاهرين بالزنا . { ولا متخذي أخدان } مسرين به ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى . { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } يريد بالإيمان شرائع الإسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه .
{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } .
يجيء في التقييد ( باليوم ) هنا ما جاء في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [ المائدة : 3 ] وقولِه : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] ، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم ، فلا يجيء هنا ، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّماً ، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة ، فيكون كقوله : { ورَضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] في تعلّق قوله : { اليوم } به ، كما تقدّم .
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله { اليوم يئسَ } [ المائدة : 3 ] و { اليوم أكملت } [ المائدة : 3 ] أنّ هذا أيضاً منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين .
والكلام على الطيّبات تقدّم آنفاً ، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله : { وطعام الذين أتوا الكتاب } . وعطفُ جملة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } على جملة { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم .
والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله ، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة ، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح . قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له ، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت . فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر . والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية ، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس . وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ، ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح ، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح ، ولكن هؤلاء قالوا : إنّ غير الذبائح ليس مراداً ، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله . والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم ، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى ، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه . ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح .
و { الذين أوتوا الكتاب } : هم أتباع التوراة والإنجيل ، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتّباع الدين ، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختياراً ؛ فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة ، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن ، وتنصّر من العرب تغلب ، وبهراء ، وكلب ، ولخم ، ونَجران ، وبعض ربيعة وغسّان ، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال : لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب ، وقال : إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر .
وقال القرطبي : هذا قول الشافعي ، وروى الربيع عن الشافعي : لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب . وعن الشافعي : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب ، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلاّ الإسلام ، ولا تقبل منه الجزية ، أي كالمشركين .
وأمَّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع ، فلا تؤكل ذبائحهم ، وشذّ من جعلهم أهل كتاب . وأمَّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف .
وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنّهم على دين إلهي يُحرّم الخبَائث ، ويتقي النجاسة ، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها ، وهي مستندة للوحي الإلهي ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان . وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي ، فمنهم أتباع ( زَرَادشْت ) ، لهم كتابُ ( الزندفستا ) وهؤلاء هم محلّ الخلاف . وأمّا المجوس ( المَانَويَّة ) فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان ، أو هم شرّ منهم . وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة . وفي « جامع الترمذي » : أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس . فقال له : " أنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها " وفي البخاري : أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنِيَة أهل الكتاب . فقال له : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها " قال ابن العربي : « فغسل آنية المجوس فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب ندب » . يُريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم ، وإنَّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ، ولم يبح لنا طعام المجوس ، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين .
ثم الطعامُ الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاماً لهم إذاكانوا يستحلّونه في دينهم ، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ، ولو كان ممّا ذكر القرآنُ أنَّه حرّمه عليهم ، لأنَّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات ، وهذا قول مالك . وأرى أنّ دليله : أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلاً للمسلمين ، ولا التفات إلى ما حكَى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين ، فكان عموم طعامهم في شرعنا مُباحاً ناسخاً للمحرّم عليهم ، ولا نصِيرُ إلى الاحتجاج « بشرع من قبلنا . . . » إلاّ إذا لم يكن لنا دليل على حُكمهِ في شرعنا . وقيل : لا يؤكل ما علِمْنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن ، وهو قول بعض أهل العلم ، وقيل به في مذهب مالك ، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم .
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ، ولا ما حرّمه علينا بوصفه ، الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع ، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك ، فأمَّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفةَ تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت ، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق ، فقال جمهور العلماء : لا يؤكل .
وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية : تؤكل . وقال في « الأحكام » : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطْم الرأس فالجواب : أنّ هذه ميتة ، وهي حرام بالنصّ ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحْن ، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال : ولقد سُئِلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاماً منه ، فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا » . وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي ، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم ، والأوداج ولو بالخنق ، وبين نحو الخنق لحبس النفَس ، ورَضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ .
وقوله : { وطعامكم حلّ لهم } لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر { وطعامكم حلّ لهم } . والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم ، فأباح لنا طعامهم ، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا ، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم ، وذلك أيضاً تمهيد لقوله بعد : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم .
{ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } .
عُطف { والمحصنات من المؤمنات } على { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } عطفَ المفرد على المفرد . ولم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حِلّ المحصنات من المؤمناتتِ في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب ، وإباحةِ تزوّج نسائهم . وعندي : أنّه إيماء إلى أنَّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب ، والمقصودُ هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباجة التزوّج بالكتابيات . فقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } عطف على { وطعام الذين أوتُوا الكتاب حلّ لكم } . فالتقدير : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم .
والمُحصنات : النسوة الّلاءِ أحْصَنَهُنّ ما أحْصَنَهُنّ ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب ، فأطلق الإحصان : على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء ( 24 ) عطفاً على المحرّمات { المحصنات من النساء } ؛ وعلى المسلمات لأنّ الإسلام وَزَعَهن عن الخنا ، قال الشاعر :
وأطلق على الحرائر ، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية . ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل ، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج ، ولا الثاني لقوله : { من المؤمنات } الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية ، ففسّرها مالك بالحرائر ، ولذلك منع نكاح الحرّ الأمةَ إلاّ إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طَوْلا ، وجوّز ذلك للعبد ، وكأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء ( 25 ) { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } وهو تفسير بيِّن ملتئم . وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد . ومن العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف ، ونقل عن الشعبي وغيره ، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها وسوء خلقها .
وكذلك القول في تفسير قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي الحرائر عند مالك ، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقاً للحرّ والعبد . والذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك .
وشمل أهلُ الكتاب : الذمّييّن ، والمعاهدين ، وأهل الحرب ، وهو ظاهر ، إلاّ أنّ مالكاً كره نكاح النساء الحربيّات ، وعن ابن عبّاس : تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب ، فمنع نكاح الحربيات . ولم يذكروا دليله .
والأجور : المهور ، وسمَّيت هنا ( أجوراً ) مجازاً في معنى الأعْواض عن المنافع الحاصلة من آثار عُقدة النكاح ، على وجه الاستعارة أوْ المجاز المرسل . والمَهْر شِعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة . ولو كانت المهور أجوراً حقيقة لوجب تحْديد مدّة الانتفاع ومقدارِه وذلك مِمَّا تنزّه عنه عقدة النكاح .
والقول في قوله : { محصنات غير مسافحين ولا متخذي أخدان } كالقول في نظيره { محصنات غير مسافحات } [ النساء : 25 ] تقدّم في هذه السورة .
وجملة { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } معترضة بين الجمل . والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم ، ولكن ذلك تيسير على المسلمين . وقد ذُكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن « لولا أنّ الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا » . والمرادُ بالإيمان الإيمانُ المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لُقّبوا بالمؤمنين ، فالكفر هنا الكفر بالرسل ، أي : ينكر الإيمان ، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات ، إذ الإيمان صار لَقباً لمجموع ما يجب التصديق به .
والحبْط بسكون الموحّدة والحُبوط : فساد شيء كان صالحاً ، ومنه سمّي الحَبَط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخَضِر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت . وفعل ( حَبِط ) يؤذن بأنّ الحابط كان صالحاً فانقلب إلى فساد . والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان ، وهو أشدّ الفساد ، فدلّ فعل ( حبِط ) على أنّ الأعمال صالحة ، وحُذف الوصف لدلالة الفعل عليه . وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفَساد الذواتِ النافعة ، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها . والمراد ضياع ثوابها وما يترقّبه العامل من الجزاء عليها والفوْز بها .
والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان ، والترغيبُ في الدخول فيه كذلك ، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم ، ويعلم المشركون ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{اليوم أحل لكم الطيبات}، يعني الحلال، أي الذبائح من الصيد، {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم}، يعني بالطعام ذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، ذبائحهم ونساؤهم حلال للمسلمين، {وطعامكم حل لهم}، يعني ذبائح المسلمين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى، ثم قال عز وجل: {والمحصنات من المؤمنات}: وأحل لكم تزويج العفائف من المؤمنات، {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}: وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى، نكاحهن حلال للمسلمين، {إذا آتيتموهن أجورهن}: إذا أعطيتموهن مهورهن، {محصنين} لفروجهن من الزنا، {غير مسافحين}: غير معلنات بالزنا علانية، {ولا متخذي أخدان}: لا تتخذ الخليل في السر فيأتيها، فلما أحل الله عز وجل نساء أهل الكتاب، قال المسلمون: كيف نتزوجهن وهن على غير ديننا، وقالت نساء أهل الكتاب: ما أحل الله تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضي أعمالنا، فأنزل الله عز وجل: {ومن يكفر بالإيمان}: من نساء أهل الكتاب بتوحيد الله، {فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}: من الكافرين.
{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5]. 326- ابن العربي: قال مالك: تؤكل ذبائحهم المطلقة، إلا ما ذبحوا يوم عيدهم لأنصابهم. 327- يحيى: قال مالك: لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية، لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات.
{وَطَعَامُ اَلذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} فاحتمل ذلك: الذبائح، وما سواها: من طعامهم الذي لم نعتقده محرما علينا. فآنيتهم أولى أن لا يكون في النفس منها شيء إذا غُسِلَتْ. (أحكام الشافعي: 2/103.)
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمُ}: الحرائر من أهل الكتاب، غير ذوات الأزواج {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} عفائف غير فواسق. (أحكام الشافعي: 2/184-185)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"اليَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ": اليوم أحلّ لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم، دون الخبائث منها.
"وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ": وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل، وأنزل عليهم، فدانوا بهما أو بأحدهما "حِلّ لَكُمْ": حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقرّ بتوحيد الله عزّ ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم.
ثم اختلف فيمن عنى الله عزّ ذكره بقوله: "وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابِ"، من أهل الكتاب؟
فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كلّ ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في ملتهم فدان دينهم وحرّم ما حرّموا وحلل ما حللوا منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم.
وقال آخرون: إنما عَنَى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يُعْنَ بهذه الآية وليس هو ممن يحلّ أكل ذبائحه لأنه ليس ممن أوتى الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعيّ يقوله حدثنا بذلك عنه الربيعّ ويتأوّل في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين... قال عليّ رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر... وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه، إنما تدلّ على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب من أجل أنهم ليسوا على النصرانية، لتركهم تحليل ما تحلل النصارى وتحريم ما تحرّم غير الخمر، ومن كان منتحلاً ملة هو غير متمسك منها بشيء، فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق بها وبأهلها، فلذلك نهى عليّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل. فإذا كان ذلك كذلك، وكان إجماعا من الحجة إحلال ذبيحة كلّ نصرانيّ ويهوديّ، إن انتحل دين النصارى أو اليهود، فأحلّ ما أحلوا، وحرّم ما حرّموا من بني إسرائيل كان أو من غيرهم، فبّين خطأ ما قال الشافعي في ذلك وتأويله الذي تأوّله في قوله: "وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ": أنه ذبائح الذين أوتوا الكتاب التوراة والإنجيل من بني إسرائيل، وصواب ما خالف تأويله ذلك، وقول من قال: إن كل يهوديّ ونصرانيّ فحلال ذبيحته من أيّ أجناس بني آدم كان.
وأما الطعام الذي قال الله: "وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ "فإنه الذبائح.
"وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ": ذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب.
"والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِنات والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتَابَ أُوتُوا مِنْ قَبْلِكُمْ إذا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ": والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِناتِ أحلّ لكم أيها المؤمنون المحصنات من المؤمنات وهنّ الحرائر منهنّ أن تنكحوهنّ، "والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ": والحرائر من الذين أعطوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهنّ أيضا "إذا آتَيْتُمُوهُنّ أجُورَهُنّ": إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهنّ، وهي مهورهن.
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهنّ الله عزّ ذكره بقوله: "والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ"؛ فقال بعضهم: عني بذلك الحرائر خاصة، فاجرة كانت أو عفيفة. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرّة مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى من أيّ أجناس كانت، بعد أن تكونَ كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وحرّموا إماء أهل الكتاب أن نتزوّجهنّ بكل حال لأن الله جلّ ثناؤه شرط من نكاح الإماء الإيمان بقوله: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ"... عن عامر: أن رجلاً من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة، فأمرت الشفرة على أوداجها، فأدركت، فدُووي جرحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذ أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إياه.
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: "والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ": العفائف من الفريقين، إماء كنّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدائنات دينهم بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب... عن عامر: "والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوتوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ "قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة.
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عزّ ذكره: "والمُحْصَنات مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" أعامّ أم خاصّ؟
فقال بعضهم: هو عامّ في العفائف منهنّ، لأن المحصنات العفائف، وللمسلم أن يتزوّج كلّ حرّة وأمة كتابية حربية كانت أو ذمية. واعتلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: "والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" وأن المعنيّ بهنّ: العفائف كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بالمحصنات في هذا الموضع: العفائف.
وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جلّ ثناؤه: "والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ": الحرائر منهنّ.
والآية عامة في جميعهنّ، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيات كنّ أو ذميات، من أيّ أجناس اليهود والنصارى كنّ، وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
وقال آخرون منهم: بل عني بذلك: نكاح بني إسرائيل الكتابيات منهنّ خاصة دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله.
وقال آخرون: بل ذلك معنىّ به نساء أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمة وعهد، فأما أهل الحرب فإن نساءهم حرام على المسلمين... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عني بقوله: "والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ": حرائر المؤمنين وأهل الكتاب، لأن الله جلّ ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرار في الحال التي أباحهنّ لهم إلاّ أن يكنّ مؤمنات، فقال عزّ ذكره: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أن يَنْكحَ المُحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤمِناتِ"، فلم يبح منهنّ إلاّ المؤمنات، فلو كان مرادا بقوله: "والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ": العفائف، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كنّ قد أتين بفاحشة بقوله: "وأنْكحُوا الأيامَى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وإمائكم"، وقد دللنا على فساد قول من قال: لا يحلّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين في موضع غير هذا بما أغني عن إعادته في هذا الموضع، فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كنّ قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية، بعد أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر، بظاهر قول الله جلّ وعزّ: "والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ". فأما قول الذي قال: عنى بذلك نساء بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة، فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى.
"إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ" فإن الأجر: العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر.
"مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتّخِذِي أخْدَانٍ": أحلّ لكم المحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان. ويعني بقوله جلّ ثناؤه: "مُحْصِنِين": أعفاء غيرَ مُسافِحِينَ يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة وهو الفجور، "وَلا مُتخِذِي أخْدَانٍ": ولا منفردين ببغية واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها... عن ابن عباس، قوله: مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحِينَ يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة، غَيْر مُسَافِحِينَ متعالنين بالزنا، وَلا مُتّخِذِي أخْدَانٍ يعني: يُسِرّون بالزنا.
عن الحسن، قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات؟ فإن كان لا بد فاعلاً، فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
"وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ": ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، وهو الإيمان الذي قال الله جلّ ثناؤه: "وَمَنْ يَكْفُرْ بالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" يقول: فقد بطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. "وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخاسرِينَ": وهو في الاَخرة من الهالكين الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد وعملهم بغير طاعة الله. وقد ذكر أن قوله: "وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ" عُني به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم تحرجّوا نكاح نساء أهل الكتاب لما قيل لهم: "أُحِلَ لَكُمُ الطّيّباتُ وطَعَامُ الذّين أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌ لَكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والمُحصَنَاتُ مِنَ الّذين أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ"... فإن قال لنا قائل: وما وجّه تأويل من وجّه قوله: "وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ" إلى معنى: ومن يكفر بالله؟ قيل وجه تأويله ذلك كذلك أن الإيمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، والكفر: جحود ذلك. قالوا: فمعنى الكفر بالإيمان، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة.
فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟
قيل: تأويلها: ومن يأب الإيمان بالله ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله، وذلك أن الكفر هو الجحود في كلام العرب، والإيمان: التصديق والإقرار، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به فهو من الكافرين، فذلك تأويل الكلام على وجهه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اليوم أحل لكم الطيبات} يحتمل قوله: {اليوم} [كونه] حرف افتتاح يفتتح [به] الكلام، لا إشارة إلى وقت مخصوص على ما ذكرنا في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] وقد يتكلم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه، وهو والله أعلم، ما حرم عليهم من ثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} [الآية: 143] إلى آخر ما ذكر، ثم قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها} الآية [الأنعام: 146]، وما حرموا هم على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها من المحرمات التي كانت، فأحل الله ذلك، فقال: {اليوم أحل لكم الطيبات} وكانت محرمة عليهم قبل ذلك. لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا: المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات في ما تقدم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس الطَّيِّبُ ما تستطيبه النفوس، ولكن الطيب ما يوجد فيه رضاء الحق -سبحانه- فتوجد عند ذلك راحةُ القلوب.
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ}: القَدْرُ الذي بيننا وبينهم من الوفاق في إثبات الربوبية لم يَعْرَ من أثرٍ في القربة فقال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]. وكذلك الأمر في المحصنات من نسائهم. وأُحِلَّ الطعامُ والذبيحةُ بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال الزجاج: معنى قوله: (ومن يكفر بالإيمان) يعني: بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، أي: ومن يستحل الحرام، أو يحرم الحلال (فقد حبط عمله) وهذا أقرب إلى نظم الآية في الإباحات، وتحليل المحرمات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اليوم أحل لكم الطيبات} إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في {الطيبات} وقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ابتداء وخبر، و {حل} معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالُبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه وُيحرم عينه تَمَلُّك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين: فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن ُتجُنب من الذمي فعلى جهة التقزز. والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول: إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس.
قوله تعالى: {وهو في الآخرة من الخاسرين} مشروط بشرط غير مذكور في الآية، وهو أن يموت على ذلك الكفر؛ إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، والدليل على أنه لابد من هذا الشرط قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني. فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد إلا والمراد بهم اليهود والنصارى. وأيضاً فإنه قال: والمحصنات من المؤمنات، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات، فوجب أن يحمل قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته، إذ قد اندرجن في قوله: والمحصنات من المؤمنات. وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، بل المراد اليهود والنصارى، فكذلك هذه الآية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات، والمنافرة لجميع أصناف الكفار، وبيان بغضهم وعداوتهم، والحث على طردهم ومنابذتهم
{هآ أنتم أولاء تحبونهم} [آل عمران: 119] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق. كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بها وسبق في الأزل علمها، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول: {اليوم}.
ولما كان القصد إنما هو الحل، لا كونه من محل معين، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله، بني الفعل للمجهول فقال: {أحل} أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً {لكم} أي أيها المؤمنون {الطيبات} أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع، فهي الكاملة في الطيب.
ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال: {وطعام الذين} ولما كان سبب الحل الكتاب، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض، بني الفعل للمجهول فقال: {أوتوا الكتاب} أي مما يصنعونه أو يذبحونه، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح، لا غيره، ولا يختلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود {حل لكم} أي تناوله لحاجتكم، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله: {وطعامكم حل لهم} أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله.
ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال: {والمحصنات} أي الحرائر {من المؤمنات} ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال: {والمحصنات} أي الحرائر {من الذين أوتوا الكتاب} وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض.
ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبلكم} أي وهم اليهود والنصارى، وعبر عن العقد بالصداق للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها: {إذا آتيتموهن أجورهن} أي عقدتم لهن، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء، كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله.
ولما كان المراد بالأجر المهر، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً، بينه بقوله: {محصنين} أي قاصدين الإعفاف والعفاف {غير مسافحين} أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً {ولا متخذي أخذان} أي صدائق لذلك في السر، جمع خدن، وهو يقع على الذكر والأنثى، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء
{وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] وقوله
{ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء: 25]، ولعل ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية، وأخلد إلى مجرد الحيوانية، فصار في عداد البهائم، بل أدنى، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده، بل الحل من باب الأولى، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه. والله أعلم.
ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة، وكانت الفتنة -وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين. لم تنزل عن درجة الإمكان، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه
{وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] أي صلاتكم، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله "وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وإن فسدت فقد خاب وخسر "وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها، ولهذا أنزلت آية
{حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238] كما مضى بالمحل الذي هي به، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفراً من نكاحهن بعد إحلاله، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة، أو يحصل ولد، فتستميله لدينها: {ومن} أي أحل لكم ذلك والحال أنه من {يكفر} أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت {بالإيمان} أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، الذي منه حل الكتابيات، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به، فإطلاقه عليها تعظيم لها
وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] أي صلاتكم {فقد حبط} أي فسد {عمله} أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله: {وهو في الآخرة من الخاسرين}... وإذا تأملت جميع ذلك، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
كرر تعالى إحلال الطيبات لبيان الامتنان، ودعوة للعباد إلى شكره والإكثار من ذكره، حيث أباح لهم ما تدعوهم الحاجة إليه، ويحصل لهم الانتفاع به من الطيبات...
والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم، أن الطعام الذي ليس من الذبائح كالحبوب والثمار ليس لأهل الكتاب فيه خصوصية، بل يباح ذلك ولو كان من طعام غيرهم. وأيضا فإنه أضاف الطعام إليهم. فدل ذلك، على أنه كان طعاما، بسبب ذبحهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله: (اليوم أحل لكم الطيبات).. فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع. فهي من الطيبات وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي "في دار الإسلام"، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد، من أهل الكتاب.. إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية؛ ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين -أو منبوذين- إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة والخلطة. فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك. ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم -وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات. وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل. فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية، ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة! وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي. فيما يختص بالعشرة والسلوك [أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيئ في سياق السورة]. وشرط حل المحصنات الكتابيات، هو شرط حل المحصنات المؤمنات: (إذا آتيتموهن أجورهن محصنين، غير مسافحين، ولا متخذي أخدان). ذلك أن تؤدى المهور، بقصد النكاح الشرعي، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة.. والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل؛ والمخادنه أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج.. وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية، ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي. قبل أن يطهره الإسلام، ويزكيه، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة.. ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد، وفيه تهديد: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين..
إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان؛ وتنفيذها كما هي هو الإيمان؛ أو هو دليل الإيمان. فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده. والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه، ولا يقر عليه.. والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما.. وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل. فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت.. وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا.. وهذا التعقيب الشديد، والتهديد المخيف، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح.. فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج؛ وأن كل جزئية فيه هي "الدين "الذي لا هوادة في الخلاف عنه، ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب: لأنّهم على دين إلاهي يُحرّم الخبَائث، ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها، وهي مستندة للوحي الإلاهي، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان...
وقوله: {وطعامكم حلّ لهم} لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر {وطعامكم حلّ لهم}. والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم، فأباح لنا طعامهم، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم، وذلك أيضاً تمهيد لقوله بعد: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم.
سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق:"اليوم أحل لكم الطيبات" وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات وأسلوب التعامل مع الصيد نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم"، فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير، لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب وهو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل الكتاب، لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال، ولا يصح أن تمنع واحدا من أهل الكتاب من طعامك لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.
وضرب لنا سبحانه المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس ومعسكرا يؤمن بالإله وهو معسكر الروم، كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله فلا بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين مع الذين آمنوا بإله وبمنهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله، ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم، لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه: {آلم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5)} (سورة الروم).
وتبدأ هذه الآية بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين، ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله، وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتخزن القوة الإسلامية لأن الفرس قد غلبت فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو ستغلب الروم.
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظميين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين، فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين} (سورة الروم).
وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبدا وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال: لقد أقمت رهانا بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال:"في بضع سنين "والبضع ما بين الثلاث والتسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين، كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين، لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول، ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب، حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء:"وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم".
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9) (سورة الممتحنة).
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد ومشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني، فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام، ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا وليأكل من طعامهم ما هو حلال لدينا، فلا يشرب المسلم خمرا ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة، وها هو ذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخذان".
والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف، وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح، وكان البغاء مقصورا على الإماء لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مهدرة الكرامة، ولذلك نجد أن هندا زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت: يا رسول الله أو تزني الحرة؟ كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.
والمحصنة أيضا هي المتزوجة ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود، ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخرا والشرط أن يكون الرجل محصنا أي متعففا.
ويحدد الحق:"غير مسافحين ولا متخذي أخذان "أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخذن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة بل لا بد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.
ويقول الحق من بعد ذلك:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، [لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعا لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال.
إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله، وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان، فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان، وإن أنكر جزئية من جزيئات الإيمان فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول: "إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي".
ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا، والكفر الإيماني يؤدي إلى حبط العمل وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر، وهنا يوضح الحق للإنسان: إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة "حبط "التي تدل عل أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود، فالماشية حين تأكل طعاما ولم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى" الربة"، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت.
والعرب تسمي هذا الداء الحبط، فالحبط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع.
وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله، والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (من الآية1سورة المائدة).
فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله وكل عقد عقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه، هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله، وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا، لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها فيخيل للرائي أن ذلك شبع وإن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت، كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا، فالحق يقول عن الكافرين بالله: {أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا} (من الآية39سورة النور).
ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله إنما أعمال تبدوا متوهمة النفع وقول الحق سبحانه: "ووجد الله عنده" أي أن مثل الإنسان يفاجأ بوجود الله كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل له فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجرا؟ لا، لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون: كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟.
ونقول لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم مسخرون للإنسان المؤمن، فالمؤمن يستفيد من الكهرباء وينتفع بها المسلمون ليقرؤوا القرآن والعلم والذكر، ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم، والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب (39)} (سورة النور).
ومرة أخرى يقول الحق: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد (18)} (سورة إبراهيم).
وها هو ذا سبحانه وتعالى يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105)} (سورة الكهف).
إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله، هو إنسان حابط العمل، وهو في الآخرة من الخاسرين لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلا بد أن يكون من الخاسرين في الآخرة.
وقوله الحق: "وهو في الآخرة من الخاسرين" يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر بنا لأن بعضا من الكافرين يكسب بعضا من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم، فكل ذلك أمور فانية، وهم مستسلمون لسنة الله فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم والحساب الختامي يكون في الآخرة فالكافر وإن أخذ شيئا من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة.