المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

90- يا أيها المصَدّقون بالله وكتبه ورسله المذعنون للحق ، ليس شرب المسكرات ، ولا لعب القمار ، ونصب الأحجار للذبح عندها تقرباً إلى الأصنام التي تعبدونها ، واتخاذ السهام والحصى والورق للتعرف بها على مغيبات القدر . . ليس كل ذلك إلا خبثاً نفسياً باطلا ، هو من تزيين الشيطان لفاعليه . . فاتركوه لكي تفوزوا في الدنيا بحياة فاضلة ، وفي الآخرة بنعيم الجنة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم ، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير ، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل ، وأمرهم باجتنابها ، فقال تعالى :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع - فقد امر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة .

ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه - تعالى - قال فيما تقدم : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } إلى قوله : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أنه - تعالى - بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات .

والخمر - بمعنى المصدر - هو الستر ، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار . والخمر - بمعنى الاسم - ما يخمر العقل ويستره ، ويمنعه من التقدير السليم :

قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر ، إذا ستر ، ومن خمار المرأة لأنه يستر وجهها . وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه : خمروا آنيتكم أي : غطوها .

وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر العجين ، أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي ، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه .

وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تخالط العقل . من المخامرة وهي المخالطة . ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثالثة متقاربة ، فالخمر تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته والأصل الستر .

والميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .

قال القرطبي : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة . وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر ، لأنه يجزئ لحم الجزور . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .

والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبني على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قماراً ، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قماراً وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبني على المصادفة .

وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل . فالعمل في ذاته حرام ، والكسب عن طريقه حرام .

والأنصاب : جمع نصب ، وتطلق على الأصنام التيك انت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقرباً للأصنام .

والأزلام : جمع زلم . وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت فسهم عليه واحد ، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة . أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي ، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفراً أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك ، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها ، فإن خرج أمرني ربي أقدموا على ما يرونه ، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .

وقد نهى الله - تعالى - في إوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } وقوله : { رِجْسٌ } أي قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته .

قال الفخر الرازي : والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل . يقال : رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا : وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة الصوت . يقال : سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد . فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح .

وقد ذكرالمفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ، وفيه قال . وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر - قال فأتيتهم في حش - أي بستان - فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال : فأكلت وشربت معهم . قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار . قال . فأخذ رجل - من الأنصار - لحي جمل فضربني به فجرح أنفي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } . . الآيات .

ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا حتى ثملوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا ، وجعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل هذا بي أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رءوفاً رحيما ما فعل بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .

والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } إيمانا حقا . إنما تعاطي { الخمر } أي : الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم { والميسر } أي القمار الذي عن طريقه يكون تمليك المال بالحظ المبني على المصادفة والمخاطرة { والأنصاب } أي : الحجارة التي تذبح عليها الحيوانا تقربا للأصنام . { والأزلام } أي : السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر . هذه الأنواع الأربعة { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } أي : مستقذرة تعافها النفوس الكريمة ، وتأباها العقول السليمة ، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإِنسان ، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحاً .

قال - تعالى - : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } والفاء في قوله { فاجتنبوه } للإِفصاح ، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام .

أي : إذا كان تعاطي هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذر ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم .

والنداء بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } عام لجميع المؤمنين ، وقد ناداهم - سبحانه - بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله ، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاماً .

وقوله : { رجس } خبر عن هذه الرذائل الأربعة . وصح الإِخبار به - مع أنه مفرد - عن متعدد هو هذه الأربعة ، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } وقيل : لأنه خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور .

وقيل : لأن الكلام مضافا إلى تلك الأشياء ، وهو خبر عنه . أي : إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس .

وقوله : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محل رفع على أنه صفة لقوله : { رِجْسٌ } أي : رجس كائن من عمل الشيطان ، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله ، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل .

وعبر بقوله : { فاجتنبوه } للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل ، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل ، بل آمركم أيضاً بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر . فالأمر هنا نمصب على الترك وعلى كل ما يؤدي إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها . وغشيان مجالسها . إلخ

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل ، وفي خط التربية للامة المسلمة في المدينة ، وتخليصها من جوالجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية ، يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام . أي إلى الشرك بالله .

( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .

لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية ، ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها ، وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف ، ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ؛ ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة ، فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر ، وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !

وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ؛ ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .

ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر ، لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ؛ فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ؛ وإقامة التصور الأسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بين للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ؛ وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية ، وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ؛ وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب ، وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد ، وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .

لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها ، من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما ، لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ؛ وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !

أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد " الإسلام " . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " تحت عنوان : " انحلت العقدة الكبرى " : " . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ؛ وجاهدهم رسول الله [ ص ] جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ؛ وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ، فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ؛ ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ؛ ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ؛ وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ؛ فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ؛ وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .

ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة ، المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها ، والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .

لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي :

كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . . ) فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .

ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ؛ ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .

ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب ، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ؛ ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدهاثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة ، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان :

عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة : ( يسألونك عن الخمر والميسر ، قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . )الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ؛ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ ) فدعي عمر فقرئت عليه فقال : " انتهينا . انتهينا " . . [ أخرجه أصحاب السنن ] .

ولما نزلت آيات التحريم هذه ، في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة : " ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت " . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها ، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !

والآن ننظر في صياغة النص القرآني ؛ والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :

( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )

إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع :

( يا أيها الذين آمنوا . . )

لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ؛ ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر :

( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . . )

فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف " الطيبات " التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ؛ ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه ، وتشمئز منه نفسه ، ويجفل منه كيانه ، ويبعد عنه من خوف ويتقيه !

وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق :

( فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، وهو القمار .

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : الشَطْرَنج من الميسر . رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عُبَيس بن مرحوم ، عن حاتم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، به .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي{[10280]} حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن لَيْث ، عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان : أو اثنين منهم - قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .

ورُوي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب{[10281]} وقالا حتى الكعاب ، والجوز ، والبيض التي{[10282]} تلعب بها الصبيان ، وقال موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الميسر هو القمار .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس قال : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة .

وقال مالك ، عن داود بن الحُصَيْن : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين .

وقال الزهري ، عن الأعرج قال : الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار .

وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو من الميسر .

رواهن ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا هذه الكِعَاب الموسومة التي يزجر بها زجرًا فإنها من الميسر " . حديث غريب . {[10283]}

وكأن المراد بهذا هو النرد ، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنزير ودَمه " . {[10284]} وفي موطأ مالك ومسند أحمد ، وسنني أبي داود وابن ماجه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " . {[10285]} وروي موقوفًا عن أبي موسى من قوله ، فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مكي بن إبراهيم{[10286]} حدثنا الجُعَيْد ، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي ، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول : أخبرني ، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله{[10287]} صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عبد الرحمن : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل الذي يلعب بالنرد ، ثم يقوم فيصلي ، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي " . {[10288]}

وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : أنه شرّ من النرد . وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ، ونص على تحريمه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وكرهه الشافعي ، رحمهم الله تعالى .

وأما الأنصاب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وغير واحد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها .

وأما الأزلام فقالوا أيضًا : هي قداح كانوا يستقسمون بها .

وقوله : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي سَخَط من عمل الشيطان . وقال سعيد بن جبير : إثم . وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان .

{ فَاجْتَنِبُوهُ } الضمير عائد على الرجس ، أي اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا ترغيب .


[10280]:في أ: "الأعمشي".
[10281]:في أ: "حبيب مثله".
[10282]:في أ: "الذي".
[10283]:وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/297)، وقال: "وقال أبي: هذا حديث باطل وهو من علي بن يزيد، وعثمان لا بأس به".
[10284]:صحيح مسلم برقم (2260).
[10285]:الموطأ (2/958) والمسند (4/394) وسنن أبي داود برقم (4938) وسنن ابن ماجة برقم (3762).
[10286]:في أ: "علي بن إبراهيم" وهو خطأ.
[10287]:في أ: "عن النبي".
[10288]:المسند (5/370) وقال الهيثمي في المجمع (8/113): "فيه موسى بن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } أي الأصنام التي نصبت للعبادة . { والأزلام } سبق تفسيرها في أول السورة . { رجس } قذر تعاف عنه العقول ، وأفرده لأنه خبر للخمر ، وخبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال : إنما تعاطي الخمر والميسر . { من عمل الشيطان } لأنه مسبب عن تسويله وتزيينه . { فاجتنبوه } الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي . { لعلكم تفلحون } لكي تفلحوا بالاجتناب عنه .

واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية ، بأن صدر الجملة ب{ إنما } وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وسماهما رجسا ، وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شر بحت أو غالب ، وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق ، وهو قوله : { ولا تعتدوا } [ المائدة : 87 ] المشير إلى أنّ الله ، كما نَهى عن تَحريم المباح ، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد ، فإنّ الخمر كان طيّباً عند الناس ، وقد قال الله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] . والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه . فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قوله { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ الأنعام : 87 ] .

وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجاً ثلاث مرات : الأولى حين نزلت آية { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [ البقرة : 219 ] ، وذلك يتضمّن نهياً غير جازم ، فتَرك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى . فقال عمر : اللّهمّ بَيّن لنا في الخمر بياناً شافياً . ثم نزلت آية سورة [ النساء : 43 ] { يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتّى تعلموا ما تقولون } ، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة ؛ فقال عمر : اللّهم بيِّن لنا في الخمر بَيَاناً شافياً . ثم نزلت الآية هذه . فقال عمر : انتهينا .

والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد ، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا . وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرَت بين سعد بن أبي وقاص ورجللٍ من الأنصار . روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال : أتيتُ على نفر من الأنصار ، فقالوا : تعالَ نطعِمْك ونُسقك خمراً وذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حُشّ ، وإذا رأسُ جَزور مشوي وزقّ من خمر ، فأكلت وشربت معهم ، فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم ، فقلتُ : المهاجرون خير من الأنصار ، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ جَمَل فضربني به فجَرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته ، فأنزل الله تعالى فِيّ { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } . وروى أبو داود عن ابن عبّاس قال : { يأيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] و { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس } [ البقرة : 219 ] نسختهما في المائدة { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } .

فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّماً للأمّة في إيضاح أسبابه رفقاً بهم واستئناساً لأنفسهم ، فابتدأهم بآية سورة البقرة ، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك ، بل أنبأهم بعذرهم في قوله : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [ البقرة : 219 ] ، ثم بآية سورة النساء ، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله : { لعلّكم تفلحون } ، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله : { إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } . ثم قال { فهل أنتم منتهون } ، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيَّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه .

وصيغة : هل أنت فاعل كذا . تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء ، نبّه عليه في « الكشاف » عند قوله تعالى : { وقيل للنّاس هَلْ أنتم مُجتمعون } في سورة [ الشعراء : 39 ] ، قال : ومنه قول تأبّط شرّاً :

هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا *** أو عَبْدِ ربّ أخَا عَوْنِ بنِ مِخْرَاقِ

( دينار اسم رجل ، وكذا عبد ربّ . وقوله : أخا عون أو عوف نداء ، أي يا أخا عون ) . فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة ، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان ، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله أن لا ينتبذوا في الحَنتم والنقير والمُزَفَّت والدّبَّاءِ ، لأنَّها يسرع الاختمار إلى نبيذها .

والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب . والمراد بالأزلام الاستقسام بها ، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر . قال في : ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر . وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة ، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى : { وما ذُبح على النّصُب } [ المائدة : 3 ] ، والكلام على الأزلام عند قوله : { وأن تستقسموا بالأزلام } في أول هذه السورة [ 3 ] . وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذُبح على النُصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة .

والمرادُ بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها ، كلّ بما يُتعاطى به من شُرْب ولعب وذَبح واستِقسام . والقصرُ المستفاد من { إنّما } قصرُ موصوف على صفة ، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره ، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة . ألا ترى أنّ الله قال في سورة [ البقرة : 219 ] في الخمر والميسر { قل فيهما إثم كبير ومَنَافع للناس } ، فأثبت لهما الإثم ، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة ، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس . وأثبت لهما المنفعة ، وهي صفة تساوي نقيض الرجس ، في نظر الشريعة ، لأنّ المنفعة تستلزم حرصَ الناس على تعاطيهما ، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين . وقد قُصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس ، فما هو إلاّ قَصْر ادّعائي يشير إلى ما في سورة [ البقرة : 219 ] من قوله : { وإثمُهما أكبر من نفعهما } ، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قُبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف ب { فيهما إثم } [ البقرة : 219 ] ، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم ، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله : { إنْ حسابُهم إلاّ على رَبِّي } [ الشعراء : 113 ] ، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي ، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف . وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس .

والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة ، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله : { وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] ، وقوله : { إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } [ الأحزاب : 33 ] . والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبارِ الشريعة . وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر ، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس . ولذلك أيضاً أفرد ( رجس ) مع كونه خبراً عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر .

ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيَها بما تُتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها ، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها ، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان ، فهو شيطان ، وذلك ممّا تأباه النفوس .

والفاء في { فاجتنبوه } للتفريع وقد ظهر حُسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها . والضمير المنصوب في قوله { فاجتنبوه } عائد إلى الرجس الجامع للأربعة . و { لعلّكم تفلحون } رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم يكونوا قد استمرّوا على غيرها من المنهيات . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { يأيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون } [ البقرة : 21 ] . وقد بيّنت ما اخترته في محل ( لعلّ ) وهو المطّرد في جميع مواقعها ، وأمّا المحامل التي تأوّلوا بها ( لعلّ ) في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتّى في هذه الآية فتأمّلْه .

واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها ؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها ؛ والميسر اجتناب التقامر به ، والأنصاب اجتناب الذبح عليها ؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها . ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه ، أو لمعرفة صورها ، أو حفظها كآثار من التاريخ ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لِمن عَصَر العنب لاتّخاذه خلاً ، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه .

فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم ؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي ، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة ، حملاً للفظ الرجس على جميع ما يحتمله .

وهو قول مالك . ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر . وليس في الأثر ما يحتجّ به لنجاسة الخمر . ولعلّ كون الخمر مائعة هو الذي قرّب شبهها بالأعيان النجسة ، فلمّا وُصفت بأنّها رجس حُمل في خصوصها على معنييه . وأمّا ما ورد في حديث أنس أنّ كثيراً من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها لذلك من المبالغة في التبرّىء منها وإزالة أثرها قبل التمكّن من النظر فيما سوى ذلك ، ألا ترى أنّ بعضهم كسر جرارها ، ولم يَقُل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس . على أنّهم فعلوا ذلك ولم يُؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم .

وذهب بعض أهل العلم إلى عَدم نجاسة عين الخمر . وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمان ، والليث بن سعد ، والمُزني من أصحاب الشافعي ، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين ؛ منهم سعيد بن الحَدّاد القيرواني . وقد استدلّ سعيد بن الحدّاد{[224]} على طهارتها بأنّها سُفِكت في طرق المدينة ، ولو كانت نجساً لنهوا عنه ، إذ قد ورد النهي عن إراقة النجاسة في الطرق . وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولاً بطهارة عين الخمر من المذهب .

وأقول : الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليستْ نَجَس العين ، وأنّ مسَاق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها ، إنّما القصد أنّها رجس معنوي ، ولذلك وصفه بأنّه من عَمَل الشيطان ، وبيّنه بعدُ بقوله : { إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة } ، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك ، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس .


[224]:- أخذ عن سحنون ولد سنة 319 وتوفي سنة 330