13- شرع لكم من العقائد ما عهد به إلى نوح ، والذي أوحيناه إليك ، وما عهدنا به إلى إبراهيم وموسى وعيسى ، أن ثبِّتوا دعائم الدين - بامتثال ما جاء به - ولا تختلفوا في شأنه ، شق على المشركين ما تدعوهم إليه من إقامة دعائم الدين ، الله يصطفي لرسالته من يشاء ، ويوفق للإيمان وإقامة الدين من يترك العناد ويقبل عليه .
ثم أكد - سبحانه - الحقيقة التى افتتحت بها السورة الكريمة ، وهى وحدة الأديان فى جوهرها وأصولها ، وبين الأسباب التى أدت إلى اختلاف الناس فى عقائدهم ، وأرشد النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أفضل الأساليب فى الدعوة إلى الحق ، فقال - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا . . . وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
قال الفخر الرازى : أعلم أنه - تعالى - لما عظم وحيه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } ذكر فى هذه الآية تفصيل ذلك فقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً . . } .
أى : شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى . . وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء ، وأصحاب الشرائع العظيمة ، والأتباع الكثيرة .
والمراد بما شرعه - سبحانه - على ألسنة هؤلاء الرسل : أصول الأديان التى لا يختلف فيها دين عن دين ، أو شريعة عن شريعة ، كإخلاص العبادة لله - تعالى - والإِيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر ، والتحلى بمكارم الأخلاق كالصدق والعفاف .
أما ما يتعلق بفروع الشرائع ، كتحليل بعض الطيبات لقوم على سبيل التيسير لهم ، وتحريمها على قوم على سبيل العقوبة لهم فهذا لا يدخل فى الصول الثابتة فى جميع الأديان ، وإنما يختلف باختلاف الظروف والأحوال .
ويؤيد ذلك قوله - تعالى - : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وقوله - سبحانه - حكاية عن عيسى - عليه السلام - { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } والمعنى : سن الله - تعالى - لكم يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من العقائد ومكارم الأخلاق ، ما سنه لنوح - عليه السلام - الذى هو أول أولى العزم من الرسل ، وأول أصحاب الشرائع الجامعة .
وشرع الله - تعالى - لكم أيضا ما أوحاه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من آداب وأحكام وأوامر ونواه .
وشرع لكم كذلك ما وصى به - سبحانه - أنبياءه : إبراهيم وموسى وعيسى ، من وصايا تتعلق بوجوب طاعة الله - تعالى - ، وإخلاص العبادة له ، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم .
وقوله - سبحانه - : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } تفصيل وتوضيح لما شرعه - سبحانه - لهؤلاء الكرام ، ولما أوصاهم به .
والمراد بإقامة الدين : التزام أوامره ونواهيه ، وطاة الرسل فى كل ما جاءوا به من عند ربهم طاعة تامة .
قال صاحب الكشاف : والمراد : إقامة دين الإِسلام الذى هو توحيد الله - تعالى - وطاعته ، والإِيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما ، ولم يرد الشرائع التى هى مصالح الأمم حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومحل { أَنْ أَقِيمُواْ } إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما الرفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين .
أى : أوصاكم كما أوصى من قبلكم بالمحافظة على ما اشتمل عليه دين الإِسلام من عقائد وأحكام وآداب .
. وأصول أجمعت عليها جميع الشرائع الإِلهية ، كما أوصاكم بعدم الاختلاف فى أحكامه التى لا تقبل الاختلاف أو التفرق .
ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من الدين الحق فقال : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } .
أى : شق وعظم على المشركين دعوتكم إياهم إلى وحدانية الله - تعالى - وإلى ترك ما ألفوه من شرك ، ومن تقاليد فاسدة ورثوها عن آبائهم .
وقوله - تعالى - : { الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } بيان لكمال قدرته - تعالى - ونفاذ مشيئته . والاجتباء : الاصطفاء والاختيار . أى : الله - تعالى - بإرادته وحكمته يطصفى ويختار لرسالته من يشاء من عباده ، ويهدى إلى الحق من ينيب إليه ، ويرجع إلى طاعته - عز وجل - ويقبل على عبادته .
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغياً بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، ولا تتبع أهواءهم ، وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ؛ وأمرت لأعدل بينكم ، الله ربنا وربكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا حجة بيننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير . والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد . .
لقد جاء في مطلع السورة : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . . فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ، ووحدة المنهج ، ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة ؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو - في عمومه - ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . وهو أن يقيموا دين الله الواحد ، ولا يتفرقوا فيه . ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم ، دون التفات إلى أهواء المختلفين . ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم ، ودحض حجة الذين يحاجون في الله ، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد .
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ :
( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) . .
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة . حقيقة الأصل الواحد ، والنشأة الضاربة في أصول الزمان ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن . وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد . فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام . . نوح . إبراهيم . موسى عيسى ، محمد - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير . إنه سيستروح السير في الطريق ، مهما يجد فيه من شوك ونصب ، وحرمان من أعراض كثيرة . وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله . الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ .
ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد ، السائرين على شرعه الثابت ؛ وانتفاء الخلاف والشقاق ؛ والشعور بالقربى الوثيقة ، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم ، ووصل الحاضر بالماضي ، والماضي بالحاضر ، والسير جملة في الطريق .
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى ? وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى ؛ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد ? وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين ? ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير ? والوصية الواحدة الصادرة للجميع : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )? فيقيموا الدين ، ويقوموا بتكاليفه ، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ؛ ويقفوا تحت رايته صفا ، وهي راية واحدة ، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - حتى انتهت إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في العهد الأخير .
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها - وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم - كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر :
( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) . .
كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم ؛ وكانوا يريدون أن يتنزل ( على رجل من القريتين عظيم )أي صاحب سلطان من كبرائهم . ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين ، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش . ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان !
وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان ؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية . فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم .
وكبر عليهم أن يقال : إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية ؛ فتشبثوا بالحماقة ، وأخذتهم العزة بالإثم ، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم ، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين .
والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء ؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه ، ويتوب إلى ظله من الشاردين :
( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) . .
وقد اجتبى محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] للرسالة . وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب .
يقول تعالى لهذه الأمة : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، عليهم السلام . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية " الأحزاب " عليهم في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآية[ الأحزاب : 7 ] . والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وفي الحديث : " نحن معشر{[25795]} الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " أي : القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي : وصى الله [ سبحانه و ]{[25796]} تعالى جميع الأنبياء ، عليهم السلام ، بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .
وقوله : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .
ثم قال : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } أي : هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ؛ ولهذا قال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } .
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع ، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله : { أن أقيموا الدين } وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول { شرع } ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به . { ولا تتفرقوا فيه } ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } { كبر على المشركين } عظم عليهم . { ما تدعوهم إليه } من التوحيد . { الله يجتبي إليه من يشاء } يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين . { ويهدي إليه } بالإشارة والتوفيق . { من ينيب } يقبل إليه .
المعنى : { شرع لكم } وبين من المعتقدات والتوحيد { ما وصى به نوحاً } قبل .
وقوله : { والذي } عطف على { ما } ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه ، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات وأحكام ، فيجيء المعنى على هذا : شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات أحكام كما كانت تلك كلها ، وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال : { ما وصى به نوحاً } يريد الحلال والحرام ، وعليه روي أن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات . وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة ، وهي المراد في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }{[10117]} .
و { أن } في قوله : { أن أقيموا } يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من { ما } ، ويجوز في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره : ذلك أن ، و [ يجوز ] {[10118]} { أن } تكون مفسرة بمعنى : أي ، لا موضع لها من الإعراب ، وإقامة الدين هو{[10119]} توحيد الله تعالى ورفض سواه .
وقوله : { ولا تفرقوا } نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب ، والخير كله في الألفة واجتماع الكلمة . ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام . قال قتادة : كبّرت عليهم : لا إله إلا الله ، وأبى الله إلا نصرها ، ثم سلاه عنهم بقوله : { الله يجتبي } أي يختار ويصطفي ، قاله مجاهد وغيره : و : { ينيب } معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه .
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } .
انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه . فالجملة ابتدائية .
ومعنى { شرع } أوضح وبيّن لكم مسالك ما كلفكم به . وأصل { شَرَعَ } جعل طريقاً واسعة ، وكثُر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسُمّي الدّين شريعة . فشرع هنا مستعار للتبيين كما في قوله : { أم لَهم شركاء شرَعُوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] ، وتقدم في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجاً } في سورة [ العقود : 48 ] .
والتعريف في { الدين } تعريف الجنس ، وهو يعمّ الأديان الإلهاية السابقة . و { من } للتبعيض .
والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به . ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصَّى به نوحاً أن الإسلام دين مثل ما أمر بِه نوحاً وحضَّه عليه . فقوله : { ما وصى به نوحاً } مقدر فيه مضاف ، أي مثلَ ما وصَّى به نوحاً ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المِثل كأنّه عين مثله . وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل : « هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى » .
والمراد : المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمُها توحيدُ الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أُودع مثله في دين الإسلام . فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياةِ الآخرة ، وتقْوى الله بامتثال أمره واجتناب مَنْهِيّه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى : { قد أفلح من تزكّى وذكر اسمَ ربّه فَصلَّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خير وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحفِ إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 14 19 ] . وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه .
ودين الإسلام لم يَخْلُ عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقاً وتوسيعاً ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بيّنتُ ذلك في كتابي « مقاصدِ الشريعة الإسلامية » . أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : { أن أقيموا الدين } إلخ بناء على أن تكون { أنْ } تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين المُوحَى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي . وأيًّا مَّا كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة ، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة .
والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى النّاس ، فدينه هو أساس الدّيانات ، قال تعالى :
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقِرى والفتوة . ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمنَ التهيئةَ إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام . وتعقيب ذكر دين نوح بما أُوحي إلى محمّد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طَرفيْ الأديان ، ثم ذُكر بعدهما الأديانُ الثلاثة الأخَر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها . وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] وقوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية في سورة [ الأحزاب : 7 ] .
وذكرَ في « الكشاف » في آية الأحزاب أن تقديم ذِكر النبي صلى الله عليه وسلم في التفصيل لبيان أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّينَ الأصيل الذي بعث به نوحاً في العهد القديم وبعث به محمداً صلى الله عليه وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما .
فقوله : { والذي أوحينا إليك } هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطْفُهُ على ما وصَّى به نوحاً لما بينه وبين ما وصَّى به نوحاً من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع . وذكرُه عقب ما وصّى به نوحاً للنكتة التي تقدمت .
وفي قوله تعالى : { ما وصى به نوحاً } وقولِه : { وما وصينا به إبراهيم } ، جيء بالموصول { ما } ، وفي قوله : { والذي أوحينا إليك } جيء بالموصول { الذي } ، وقد يظهر في بادىء الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاثَ مرات متواليات ، وذلك كافٍ في هذا التخالف . وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلافُ لغرض معنويّ ، وأنه فَرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن { الذي } وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يُعيَّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف { الذي } يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته .
وأمّا { مَا } الموصولةُ فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى : { إنَّ الله نعِمَّا يَعِظُكم به } [ النساء : 58 ] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئاً يعظكم به . ف { ما } نكرة تمييز ل ( نِعْم ) وجملة { يعظكم به صفة لتلك النكرة . وقال سيبويه في قوله تعالى : { هذا ما لديَّ عتيد } [ ق : 23 ] المراد : هذا شيء لدي عتِيد ، وأنشدوا :
لِمَا نافعٍ يسعَى اللبيبُ فلا تكُن *** لشيء بَعيدٍ نفعُه الدّهرَ ساعيا
أي لشيء نَافع ، فقد جاءت صفتها اسماً مفرداً بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعْرِض ل { مَا } التعريفُ بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملةٍ فتعرفت بصفتها وَأشْبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال { ما } موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار { ما وصَّى به نوحاً } و { ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } بحرف { ما } لمناسبة أنّها شرائع بَعُد العهدُ بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالاً فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم باسم { الذي } فلأنه شرع متدَاوَل فيهم معروفٌ عندهم . فالتقدير : شرع لكم شيئاً وصَّى به نوحاً وشيئاً وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيءَ الموحى به إليك . ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها . وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : { والذي أوحينا إليك } بعد قوله { شرع لكم } التفات .
وذُكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل { وصى } وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحَاء لأن الشرائع التي سبقت شريعةَ الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّراً ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل { أوحينا إليك } وبين قوله في صدر السورة { كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } [ الشورى : 3 ] .
و { أنْ } في قوله : { أن أقيموا الدين } يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدرُ الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من { مَا } الموصولة الأولى أو الأخيرة . وإذا كان بدلاً من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل { شرع } بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان . ويجوز أن تكون تفسيريةً لمعنى { وصى } لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه . فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلَّ رسول من الرّسل الذين سماهم . وهذا الوجه يقتضي أن ما حُكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مُجملةٌ يفسرها ما في كل دين من الفروع .
وإقامة الشيء : جعله قائماً ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : { ويقيمون الصلاة } وقد تقدم في سورة [ البقرة : 3 ] .
وضمير { أقيموا } مراد به : أُمَم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل { وصى } من معنى التبليغ . وأعقب الأمرُ بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين .
والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيراً لقُوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نِحَلاً وأحزاباً ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين .
والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ ، ولذلك قال الله تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم } [ الأنفال : 46 ] .
وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين » .
{ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إليه } .
اعتراض بين جملة { شرع لكم من الدين } وجملةِ { وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم } [ الشورى : 14 ] . ولك أن تجعله استئنافاً بيانياً جواباً عن سُؤال مَن يتعجب من إعراض المشركين عن الإسلام مع أنه دين مؤيّد بما سَبق من الشرائع الإلهاية ، فأجيب إجمالاً بأنه كَبُر على المشركين وتجهموه و { كبر } بمعنى صعُب ، وقريب منه إطلاق ثقل ، أيْ عجزوا عن قبول ما تدعوهم إليه ، فالكبر مجاز استعير للشيء الذي لا تطمئن النفس لقبوله ، والكِبرُ في الأصل الدّال على ضخامة الذات لأن شأن الشيء الضخم أن يعسر حمله ولما فيه من تضمين معنى ثقل عدّي ب { على } .
وعبر عن دعوة الإسلام ب { ما } الموصولة اعتباراً بنُكران المشركين لهذه الدعوة واستغرابِهم إيّاها ، وعدِّهم إيّاها من المحال الغريب ، وقد كبر عليهم ذلك من ثلاث جهات :
جهة الداعي لأنه بشر مثلهم قالوا { أبعَث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ، ولأنه لم يكن قبْل الدعوة من عظماء القريتين { لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
وجهةِ ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة من السماء فقد قالوا { لن نُؤمن لِرُقيِّك حتى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا } [ الفرقان : 21 ] { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] والقائلون هم المشركون .
ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] { هل ندُلُّكم على رجل ينبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ } [ سبأ : 7 ] . وجيء بالفعل المضارع في { تدعوهم } للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها .
{ الله يجتبى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدى إِلَيْهِ مَن ينيب } .
استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل : كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام ، بأن الله يجتبي من يشاء ، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غيرُ مجتبَيْنَ إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم ، أي لم يقدر لهم الاهتداء . ويجوز أن يكون ردّاً على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء .
والاجتباء : التقريب والاختيار قال تعالى : { قالوا لولا اجتَبَيْتَها } [ الأعراف : 203 ] . ومن يشاء الله اجتباءه مَن هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه .
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفِعلي لإفادة القصر ردّاً على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله . وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيراً منهم .