ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يسلك هذا الطريق القويم فقال : { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ . . } .
واسم الإِشارة يعود إلى الإِنسان باعتبار الجنس . أى : أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجميلة ، هم { الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } من الأعمال الطيبة المتقبلة عندنا . . . { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فلا نعاقبهم عليها ، لكثرة توبتهم إلينا .
. بل نجعلهم { في } عداد { أَصْحَابِ الجنة } الخالدين فيها ، والمتنعمين بخيراتها .
فالجار والمجرور فى قوله { صْحَابِ الجنة } فى محل نصب على الحال ، على سبيل التشريف والتكريم ، كما تقول : أكرمنى الأمير فى أصحابه ، أى : حالة كونى معدودا من أصحابه .
وقوله - تعالى - : { وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } تذييل مؤكد لما قبله . ولفظ { وَعْدَ } مصدر لفعل مقدر . أى : وعدهم الله - تعالى - وعد الصدق الذى كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل فى الدنيا .
هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا فى شأن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، وقد استجاب الله دعاءه ، فأسلم أبواه وأولاده جميعا .
ذلك شأن العبد الصالح ، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه . فأما شأن ربه معه ، فقد أفصح عنه هذا القرآن :
( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) . .
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال . والسيئات مغفورة متجاوز عنها . والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء . ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا . ولن يخلف الله وعده . . وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام .
قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، فيغفر لهم الكثير من الزلل ، ويتقبل منهم اليسير من العمل ، { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } أي : هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله من تاب إليه وأناب ؛ ولهذا قال : { وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال {[26420]} ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطْرِيف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس{[26421]} ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الروح الأمين ، عليه {[26422]} السلام ، قال : " يؤتى {[26423]} بحسنات العبد وسيئاته {[26424]} ، فيقتص{[26425]} بعضها ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة " قال : فدخلتُ على يزداد فَحُدّث بمثل هذا الحديث قال : قلت : فإن ذهبت الحسنة ؟ قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } {[26426]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، عن المعتمر بن سليمان ، بإسناده مثله - وزاد عن الروح الأمين . قال : قال الرب ، جل جلاله : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته . . . فذكره ، وهو حديث غريب ، وإسنادٌ جيد لا بأس به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن مَعْبَد ، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر{[26427]} جعفر بن أبي وَحْشية ، عن يوسف بن سعد{[26428]} ، عن محمد بن حاطب قال : ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة ، فقال لي يوما : لقد شهدتُ أمير المؤمنين عليا ، وعنده عمارا وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر ، فذكروا عثمان فنالوا منه ، وكان علي ، رضي الله عنه ، على السرير ، ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه ، فقال علي : كان عثمان من الذين قال الله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } قال : والله عثمان وأصحاب عثمان - قالها ثلاثا - قال يوسف : فقلت لمحمد بن حاطب : آلله لسمعت هذا من عليّ ؟ قال : آلله لسمعت هذا من علي ، رضي الله عنه .
{ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه . { ونتجاوز عن سيئاتهم } لتوبتهم ، وقرأ حمزة الكسائي وحفص بالنون فيهما . { في أصحاب الجنة } كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم . { وعد الصدق } مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد { الذي كانوا يوعدون } أي في الدنيا .
قوله تعالى : { أولئك } دليل على أن الإشارة بقوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] إنما أراد الجنس{[10314]} .
وقرأ جمهور القراء : «يُتَقبَّل » بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك «يُتجاوز » . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة «نتقبل » «أحسنَ » بالنصب «ونتجاوز » وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه . وقرأ الحسن «يَتقبل » بياء مفتوحة «ويَتجاوز » كذلك ، أي الله تعالى وقوله : { في أصحاب الجنة } يريد الذين سبقت لهم رحمة الله . وقوله : { وعدَ الصدق } نصب على المصدر المؤكد لما قبله .