ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .
وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .
والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .
وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .
ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .
وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .
ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .
والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .
وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .
والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .
فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .
ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء :
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ، وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء ، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك ، مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ، وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ، ومزالق الطريق ، ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير ، ولا بد فيها من سر ، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله ، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :
( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل ، ولم تتراجع ، ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ، تتوالى القرون والأجيال ؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة ، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) !
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ، وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية ، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى ، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ، ووسائل الدعاية الحديثة ، لتشويه أهدافها ، وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة ، وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية ، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق ، وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
كله ، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ؛ وتمضي في طريقها الموعود ، إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
وقوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ]{[6304]} } [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن{[6305]} على قدر دينه ، إن{[6306]} كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم{[6307]} من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال : وكان رسول الله{[6308]} صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن{[6309]} الله فيهم .
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار ، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قَبْل وقعة بَدْر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة ، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تُغَبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6310]} ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبَي : أيها المَرْء ، إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى{[6311]} يا رسول الله ، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك . فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون{[6312]} فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب{[6313]} - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح{[6314]} فوَالله الذي{[6315]} أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله{[6316]} بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة{[6317]} على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه{[6318]} بالعصابة ، فلما أبى{[6319]} الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فَعَل{[6320]} به ما رأيتَ ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] {[6321]} } وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى أذنَ الله فيهم ، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد تَوَجّه ، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام{[6322]} وأسلموا{[6323]} {[6324]} .
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذَى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .
{ لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : { لُتبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ } لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم ، { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : من اليهود وقولهم { إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ } وقولهم { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } وما أشبه ذلك من افترائهم على الله . { وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا } يعني النصارى ، { أذًى كَثِيرا } والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : المسيح ابن الله ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله . { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا } يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته . { فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به . وقيل إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع . كالذي :
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثيرا } قال : نزلت هذه الاَية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدّه ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : «لا تَفْتَاتَنّ عليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجِعَ » فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم أن نمده ! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَفْتاتَنّ عَليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجعَ » فكف¹ ونزلت : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ } وما بين الاَيتين إلى قوله : { لَتُبْلَوْنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } نزلت هذه الاَيات في بني قينقاع ، إلى قوله : { فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } . قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم ، ثم قال : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : اليهود والنصارى ، { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : عزير ابن الله ، ومن النصارى : المسيح ابن الله ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب ، ويسمعون إشراكهم ، فقال الله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .
وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشبب بنساء المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي¹ فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة ، قال : فليدن إليّ بعضكم ، فليحدثني بحاجته ! فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها ، فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس . فأتوه ، فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب ! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا ، قال : فقالوا إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وَسْق ، وهذا رهينة وسقين ! فقال : أترهنوني نسائكم ؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم ! قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك ، وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني . قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه ، قالوا : ما هذه الريح يا فلان ؟ قال : هذا عطر أم فلان ! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله ! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ، ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قتل سيدنا غيلة ! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ، ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، فقال : فكان ذلك الكتاب مع عليّ رضوان الله عليه .
{ لتبلون } أي والله لتختبرن . { في أموالكم } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات . { وأنفسكم } بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب . { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين . أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها . { وإن تصبروا } على ذلك . { وتتقوا } مخالفة أمر الله . { فإن ذلك } يعني الصبر والتقوى . { من عزم الأمور } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه .
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة .
فأصل { لتبلونّ } لتبلوونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ . وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده .
والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات . والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة . والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح . وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده .
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال . قاله القفّال .
وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور .
و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها . والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] .
ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره: {لُتبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ} لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم، {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: من اليهود وقولهم {إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ} وقولهم {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} وما أشبه ذلك من افترائهم على الله. {وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا} يعني النصارى، {أذًى كَثِيرا} والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: المسيح ابن الله، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله. {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا} يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته. {فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به... قال ابن جريج: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: {لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ} قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم، ثم قال: {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: اليهود والنصارى، {وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا} فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم: عزير ابن الله، ومن النصارى: المسيح ابن الله، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب، ويسمعون إشراكهم، فقال الله: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشبب بنساء المسلمين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. وفي الأموال: الإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف، وصدّ من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن. وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص، ومن بني قريظة والنضير {فَإِنَّ ذلك} فإن الصبر والتقوى {مِنْ عَزْمِ الأمور} من معزومات الأمور، أي مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم الله أن يكون، يعني أنّ ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك قول فنحاص: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره: نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و«الأذى»: اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و «العزم»: إمضاء الأمر المروي المنقح
.. والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، و «العزم»: قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"كل نفس ذائقة الموت" زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الإيذاء بالنفس والإيذاء بالمال. والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا نزل البلاء شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
أقول: وعبارة الكشاف خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
الأستاذ الإمام: يصح اتصال هذه الآية بما قبلها من قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين يبخلون) الآيات فإن فيها ذكر البخل بالمال وذكر حال اليهود وهذه تذكر البلاء بالمال وما سيلاقي المؤمنون من أولئك اليهود وغيرهم. ويصح أن يكون على ما قاله بعضهم متصلا بما هو قبل ذلك من أول واقعة أٌحد إلى هنا، كأنه يقول: إن ما وقع من الابتلاء في الأنفس والأموال والطعن في تلك الواقعة ليس آخر الابتلاء بل لا بد أن تبلوا بعد ذلك بكل هذه الضروب منه وتجري فيكم سنته تعالى في خلقه، فلا تظنوا أنكم جلستم على عرش العزة واعتصمتم بالمنعة وأمنتم حوادث الكون فإنه لا بد أن يعاملكم الله تعالى، كما يعامل الأمم معاملة المختبر المبتلي لا ليعلم ما لم يكن يعلم من أمركم فهو علام الغيوب، بل ليميز الخبيث من الطيب من بعد، كما ماز الكثيرين في واقعة أحد.
قال: والابتلاء في الأموال يفسر بفرض الصدقات وبالبذل في سبيل الله- وهو كل ما يوصل إلى الخير –وبالحوائج والآفات وهذا الجمع أولى مما ذهب إليه بعضهم من تخصيصه بالأول وبعضهم من تخصيصه بالثاني. والابتلاء في الأنفس يكون بتكليف بذلها في سبيل الله وبموت من يحب الإنسان من الأهل والأصدقاء (أقول: وكذا الابتلاء بالمصائب البدنية كالأمراض والجروح) والابتلاء بالتكليف هو أهم الابتلاءين. وذلك أن الله تعالى لم يكفل للمسلمين الحفظ والنصر والسيادة لأنهم مسلمون وإنما يكلفهم الجري على سنته تعالى كغيرهم فلا بد لهم من الاستعداد للمدافعة دائما وذلك يقتضي بذل المال والنفس. ومن هنا تعلم غلط الذين يفسرون الابتلاء بالمال والأمر ببذله والجهاد به- كل ذلك بالزكاة وما الزكاة إلا نوع من أنواع الحقوق التي جعلها الله في المال وهي كثيرة تشمل كل ما به صلاح الأمة ورفع شأنها من الأعمال وكل ما يدفع عنها الأعداء، ويرد عنها المكاره والأسواء (يعني كالأعمال التي تعمل للوقاية من الأمراض والأوبئة) ومن ذلك الابتلاء في المدافعة عن الحق سواء كان بالمال أو بالنفس فهو يوطن نفوسهم على الأخذ بالاحتياط في الأمور العامة والاستعانة عليها بالمال وتحمل المكاره ويحذرهم من الشره والطمع في المال حتى إذا طمعوا أو قصروا في الاحتياط كما وقع لهم في أحد علموا أنهم ما أصيبوا إلا بما كسبت أيديهم أو قصرت فيه هممهم فلا يتعللون، ولا يقولون كيف أصبنا ونحن مسلمون.
وقدم ذكر المال لأنه هو الوسيلة التي يكون بها الاستعداد لبذل النفس فبذل المال يحتاج إليه قبل بذل النفس أو لأن الإنسان كثيرا ما يبذل نفسه دفاعا عن ماله فالذين قالوا إن المال شقيق الروح لاحظوا الغالب ومن غير الغالب أن يقدم الإنسان ماله على نفسه. علمنا أن فائدة الابتلاء هي تمييز الخبيث من الطيب وأما الإخبار به ففائدته التعريف بالسنن الإلهية وتهيئة المؤمن لها وحمله على الاستعداد لمقاومتها فإن من تحدث له النعمة فجأة على غير استعداد ولا سعي ترجى هي من ورائه تدهشه وتبطره، وربما تهيج عصبه فيقع في داء أو يموت فجأة، وكذلك من تقع به المصيبة فجأة على غير استعداد يعظم عليه الأمر ويحيط به الغم حتى يقتله في بعض الأحيان أما المستعد فإنه يكون ضليعا قويا.
أقول: يعني أنه يحمل البلاء بلا تبرم ولا سآمة فإن ظفر لا يفرح فرح البطر الفخور، وإن خسر لا يشقى شقاء اليؤوس الكفور، فهذا الإعلام تربية من الله لعباده المؤمنين، فما بالهم في هذا العصر عن التذكرة معرضين (أفلم يدبروا القول أن جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) [المؤمنون: 68]. هذا وإن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر الأولى، والظاهر أن هذه الآيات نزلت في السنة الرابعة بعد غزوة بدر الآخرة كما يأتي. فالظاهر أن المراد بالابتلاء فيها بالمال هو الحاجة والقلة كما حصل في غزوة الأحزاب ثم في غزوة تبوك {راجع تفسير (ولنبلونكم بشيء من الخوف) [البقرة: 155] ج 2 تفسير} وتقرأ بيانه لنا بعد خمسة أسطر.
وأما قوله: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) فهو ابتلاء آخر وقد نزلت هذه الآية بعد أن كان المشركون وأهل الكتاب ملئوا الفضاء بكلامهم المؤذي للرسول والمؤمنين؛ فلما صرّح الكتاب بهذا وهو ما ألفه المسلمون واعتادوه؟ بل قال الأستاذ الإمام: إن مثل هذا يدخل في الابتلاء في الأنفس وإنما خصه بالذكر لأنه من الأهمية بمكان.
أقول: نبه بهذه العبارة على عظم شأن هذا النبأ وليس عندي شيء عنه في سببه والمراد منه ولا أذكر أنني رأيت ذلك في شيء من الكتب التي اطلعت عليها فيجب الرجوع في ذلك إلى التاريخ، أي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا تذكرنا أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر الآخرة التي سبق ما ورد فيها من الآيات بعد الكلام في غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد- وتذكرنا أن ذلك كان في شعبان من سنة أربع وتذكرنا ما كان في سنة خمس من حديث الإفك وقذف عائشة الصديقة برأها الله تعالى- ومن تألب اليهود ونقض عهدهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم وأمن شر مجاورتهم إياه بالمدينة- ومن تألبهم مع المشركين وجمع الأحزاب من الفريقين وزحفهم على المدينة لأجل استئصال المسلمين- وما كان في ذلك من البلاء الشديد والجوع الديقوع والحصار الضيق الذي قال الله فيه كله: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) [الأحزاب: 9].
إذا تذكرنا هذا كله علمنا أن الآية تمهيد له وإعداد للمسلمين لتلقيه لعل وقعه يخف عليهم ولذلك قال: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) يعني إن تصبروا على البلاء الكبير الذي سيحل بكم في أموالكم وأنفسكم وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه في الاستعداد لذلك قبل نزوله ومكافحته عند وقوعه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله أن يكون، أي من عزمات قضائه التي لابد من وقوعها.
ومن تدبر هذا علم ضعف رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص... فإن هذه الوصية المؤكدة للمؤمنين كافة وما سبقها من التمهيد أكبر من ذلك وإن حسنها من رواها، ويرجح ما اخترناه في الآية السابقة من كونها في المؤمنين لا في الكافرين. وفي رواية عند عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن كعب أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذه أضعف من الأولى فإن كعب ابن الأشرف قتل قبل غزوة أحد وكفى الله المسلمين كيده وقوله.
قال الأستاذ الإمام: الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع الروية في دفعه ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين دفع الجزع ومحاولة طرده، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه فمن لا يحس به لا يسمى صابرا وإنما هو فاقد للإحساس يسمى بليدا، وفرق بين الصبر والبلادة، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا وتركا عن باعث القلب. وذلك من عزم الأمور أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.
فأصل {لتبلونّ} لتبلونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان: واو الرفع ونون التوكيد الشديدة، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ. وكذلك القول في تصريف قوله تعالى: {ولتسمعنّ} وفي توكيده.
والابتلاء: الاختبار، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات. والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة. والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح. وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده.
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران: 111] كما تقدّم آنفاً، ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتي الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد، وهي بعد الأمر بالقتال. قاله القفّال.
وقوله: {فإن ذلك} الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل: فإنّ المذكور.
و (عزم الأمور) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول، أي من الأمور المعزوم عليها. والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد. قال تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] والمراد هنا العزم في الخيرات، قال تعالى: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] وقال: {ولم نجد له عزما} [طه: 115].
ووقع قوله: {فإن ذلك من عزم الأمور} دليلاً على جواب الشرط، والتقدير: وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن محنة أحد كانت فيها العبر، وكانت تمحيصا لقلوب المؤمنين وصقلا لنفوسهم، وبين الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات أيضا أنه سبحانه لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يتبين الخبيث من الطيب، وقوي الإيمان من ضعيفه، وذكر سبحانه ما كان يلقيه المشركون واليهود من أقوال جارحة، وبعضها يمس ذات الله تعالى، كقولهم –لعنهم الله – إن الله فقير ونحن أغنياء.
ولقد ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المستقبل سيكون من جنس الماضي، وأنه سينزل بالمؤمنين ضروب من البلاء كالتي نزلت أو أقوى، وأن واجب التبليغ والإيمان يتقاضاهم أن يتحملوا ذلك بصبر وتقوى واحتياط، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا}.
ففي هذا النص السامي إخبار لهم بأن البلاء الذي ذاقوا بعضه مستمر، وهو خير لهم، وذلك ليستعدوا لتلقيه من غير فزع ولا جزع، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها، أما الشدة التي تقع من غير توقع، فإنه يصعب احتمالها، وقد ذكر سبحانه وتعالى مواضع الابتلاء، وكلها عزيز يحرص عليه، وهذه المواضع هي المال والنفس، والدين.
والمال والنفس قال فيهما سبحانه وتعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم}، وقد أكد سبحانه وقوع الابتلاء بالقسم، واللام الموطئة للقسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد بهذه التأكيدات ليكون الوقوع مستقيما، وليسعدوا بالصبر والمجاهدة، والاعتماد على الله تعالى؛ والابتلاء في المال بإنفاقه في سبيل الله تعالى، وتبديده بغارات الأعداء،وبالتكليفات الكثيرة المتعلقة به، وقد ابتدأ به لأنه أدنى الدرجات، فالترتيب في الابتلاء متدرج يبتدئ من الأدنى، وهو المال والاختبار فيه شديد قاس، والاحتمال يحتاج إلى صبر وعزم، وقد يكون الاختبار في المال بالجوائح تنزل به، فكل هذا اختبار بالمال، وإنه ليسمى نفسيا؛ لأنه قرين النفس، وإن كان دونها، وهي أغلى منه، والمعنى: ليست أحوال المؤمن رخاء دائما، بل فيها شدة وبلاء يقتضي الصبر، وفيها نعمة وإحسان يقتضي الشكر.
والابتلاء في الأنفس يكون بالخوف من مساورة الأعداء، وتربصهم دائما، بالجوع، وبهلاك النفوس في الحروب، وبالشدائد فيها، والابتلاء في المال والأنفس قد ذكره سبحانه وتعالى بهذه الآية، وفي كثير من الآيات.
والدرجة العليا من الابتلاء هي ما يخص الدين، وقد خصها سبحانه وتعالى بالذكر المؤكد، فقال: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} والأذى الذي كانوا يسمعونه هو الافتراء على الله تعالى، والتهكم على القرآن، والسخرية من الشرع الإسلامي، من مثل قولهم: {إن الله فقير ونحن أغنياء...181} [آل عمران] ومثل قول المشركين: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه...47} [يس]، وهكذا مما يمس الحقائق الدينية، وقد جعله الله سبحانه وتعالى في المرتبة العليا من الابتلاء؛ لأن المؤمن يسهل عليه التأذي في ماله ونفسه، ولا يسهل عليه الأذى في دينه، وغنه يحتمل كل شيء في سبيل الدين، فإذا اتخذت الحقائق الدينية ذاتها هزوا ولعبا فإن ذلك فوق الاحتمال، ولذلك لم يحتمل أبو بكر الصديق كلام (فنحاص) عندما تهجم على ذات الله فضربه وشج رأسه، مع ما اشتهر به الصديق من رقة وعطف، حتى شبهه النبي صلى الله عليه وسلم باللبن السائل للينه وسهولته.
وفي النص الكريم إشارات بيانية نبينها، فإن في بيانها ذكرا لمرامي النص الكريم:
أولها: أنه عبر عن المخالفين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بما يشير بأنهم قسمان: قسم أوتي علم الكتاب الذي نزل على بعض الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، والقسم الثاني المشركون الذين لا يؤمنون بكتاب، ولا يهتدون بهدى، وقد جمع القرآن القسمين في أمر واحد، وهو معاداة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد دفعتهم المعاداة إلى الجحود، وما كانت المعاداة لشخصه، بل كانت لما جاء به، وما يدعو إليه، وفي الجمع بين العالم بالكتاب والجاهل به إشارة إلى أنه عند وجود المعاندة يستوي العالم والجاهل، فإن الجاهل يعمه في عمياء جهالته، والعالم يطمس الله تعالى على قلبه، فيكون هو والجاهل سواء.
والثاني: الإشارة إلى أنه إذا كان سبب معاندة المشركين جهلا فسبب معاندة الكتابيين هو الحسد، إذ يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ذلك أنهم بمقتضى كونهم أوتوا الكتاب من قبل ظنوا ذلك اختصاصا اختصوا به، وأنهم أولى ان تكون الرسالة فيهم دون غيرهم، {الله اعلم حيث يجعل رسالته...124} [الأنعام] وبذلك سكن قلبهم الحقد والحسد، وحيث كان الحسد كانت العداوة وكان العمى عن إدراك الحقائق.
الثالث: التعبير عن نزول الأذى بسماعه، وقال سبحانه: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} والذي يسمع هو كلام، وعبر عنه بالأذى لأنه يؤدي إلى أذى، وموضوعه أذى، وهو في ذاته أذى، فكأن الأذى في ذات القول، ولذلك كان مفعولا للسماع، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه أذى كثير، وذلك ليبين لهم ما يوجب استعدادهم لسماعه، من أذى ليس بقليل في مقداره، ولا في نوعه، ولا في موضوعه، فالكثرة ليس المراد منها المقدار فقط، بل الكثرة تشمل المقدار والنوع، والطريقة والموضوع.
وقد بين سبحانه وتعالى العلاج في هذا البلاء: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.
الصبر ضبط النفس وحبسها عن الجزع، وحبسها على العمل واتخاذ الأهبة، وحبسها أيضا مع اهل الإيمان كما قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه...28} [الكهف] فالصبر يتضمن ضبط النفس عن الجزع، وقوة الاحتمال، والتضافر مع الجماعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأنصار فيما روى عنه من انه قال فيهم:"يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع".
{تتقوا} معناها ان تتخذوا الوقاية بطلب رضا الله تعالى، ورجاء ما عنده، وأن تستعدوا، وتدفعوا الاعتداء بالحق وتعملوا على الخروج من المحنة، فليس شأن المؤمن استسلاما للمصائب تنزل به، بل شأنه صبر من غير جزع، وعمل من غير طمع، وجد وجهاد ودفع للشر.
وقد بين سبحانه أن التقوى والصبر هما من الأمور التي أمر الله تعالى بها لأنها تؤدي إلى النجاح، ولذلك قال سبحانه: {فإن ذلك من عزم الأمور} أي إن ذلك مما يعقد الأمور ويربطها ويوثقها ويؤكدها، ويجعلها قوية منتجة مثمرة، فالصبر والتقوى بهما النجاح في الأمور.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
أما الآية الثانية (186) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم في أموالهم بالحوائج، والواجبات، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة كالجهاد والحج والصيام، وأنهم لابد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذىً كبيراً كما قال فنحاص: الله فقير ونحن أغنياء أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة آلهة مع الله ثم حثهم تعالى على الصبر والتقوى فقال وإن تصروا وتتقوا فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) أجل إنّ هذه الحياة أساساً ساحة اختبار ودار امتحان، فلابدّ أن يتهيأ الإِنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه، وشعره.
ولهذا قال سبحانه: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً).
إِنّ مسألة التعرض لأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإِن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة، لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم...
ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإِنذار والتنبيه بقوله: (وإِن تصبروا وتتقوا فإِن ذلك من عزم الأُمور).
وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إِلى الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأن هذه الأُمور من الأُمور الواضحة النتائج، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.
والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة، وعلى هذا فإِن «عزم الأُمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إِنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إِليه.
واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إِشارة إِلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى، ويبدون التبرم بما لقوا، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائماً وأبداً ويتجنبون مثل ذلك السلوك.