ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
والفاء للتفريع على النعم المتعددة التى سبق ذكرها ، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم ، والآلاء : جمع إِلْى - بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام - وهى النعمة ، والخطاب للمكلفين من الجن والإنس ، وقيل لأفراد الإنس مؤمنهم وكافرهم ، أى : فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما ، أى : تجحدان فضله ومننه - يا معشر الجن والإنس - مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لى ، والخضوع لعزتى والإخلاص فى عبادتى .
قال الجمل ما ملخصه : كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وهو ينكر هذا الإحسان : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا . . . ؟
ومثل هذا الكلام شائع فى كلام العرب ، وذلك أن الله - تعالى - عدد على عباده نعمه ، ثم خاطبهم بقوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقد كرر - سبحانه - هذه الآية ثمانى مرات ، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه ، ومبدأ هذا الخلق ونهايته ، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم . . . ثم كررها - أيضا - ثمانى مرات فى وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وكررها كذلك ثمانى مرات فى الجنتين التين هما دون الجنتين السابقتين ، فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله - تعالى - ، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه .
وقوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي الآلاء {[27852]} - يا معشر الثقلين ، من الإنس والجن - تكذبان ؟ قاله مجاهد ، وغير واحد . ويدل عليه السياق بعده ، أي : النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها ، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها {[27853]} ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون : " اللهم ، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد " . وكان ابن عباس يقول : " لا بأيِّها يا رب " . أي : لا نكذب بشيء منها .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ، والمشركون يستمعون {[27854]} { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } {[27855]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنّ مِن مّارِجٍ مّن نّارٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ : فبأيّ نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم تكذّبان . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سهل السراج ، عن الحسن فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ فبأيّ نعمة ربكما تكذّبان .
قال عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ قال : لا بأيتها يا ربّ .
حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك النضري ، قالا : حدثنا يحيى بن سليمان الطائفي ، عن إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن ، أو قُرئت عنده ، فقال : «ما لِي أسْمَعُ الجِنّ أحْسَنَ جَوَابا لِرَبّها مِنْكُمْ ؟ » قالوا : ماذا يا رسول الله ؟ قال : «ما أتَيْتُ على قَوْلِ اللّهِ : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تكَذّبانِ ؟ إلاّ قالَتِ الجِنّ » : لا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبّنا نُكَذّبُ » .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ يقول : فبأيّ نعمة الله تكذّبان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ يقول للجنّ والإنس : بأيّ نِعم الله تكذّبان .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش وغيره ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ قال : لا بأيتها ربنا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ قال : الاَلاء : القدرة ، فبأيّ آلائه تكذّب خلقكم كذا وكذا ، فبأيّ قُدرة الله تكذّبان أيها الثّقَلان ، الجنّ والإنس .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ فخاطب اثنين ، وإنما ذكر في أوّل الكلام واحد ، وهو الإنسان ؟ قيل : عاد بالخطاب في قوله : فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ إلى الإنسان والجانّ ، ويدلّ على أن ذلك كذلك ما بعد هذا من الكلام ، وهو قوله : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ . وقد قيل : إنما جعل الكلام خطابا لاثنين ، وقد ابتدىء الخبر عن واحد ، لما قد جرى من فعل العرب ، تفعل ذلك وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين ، فيقولون : خلياها يا غلام ، وما أشبه ذلك مما قد بيّناه من كتابنا هذا في غير موضع .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب { ألقيا في جهنم }{[10813]} و " يا غلام اضربا عنقه " . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : «إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا »{[10814]} .