وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات } بدل من قوله - تعالى - { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } .
أى : واذكر - أيها العاقل - أيضا - يوم يقول المنافقون والمنافقات ، الذين أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر ، يقولون للذين آمنوا ، على سبيل التذلل والتحسر .
{ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أى انتظرونا وتريثوا فى سيركم لكى نلحق بكم ، فنستنير بنوركم الذى حرمنا منه ، وننتفع بالاقتباس من نوركم الذى أكرمكم الله - تعالى - به .
قال الآلوسى : { انظرونا } أى : انتظرونا { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه ، وذلك بأن يلحقوا بهم ، فيستنيروا به . . واصل الاقتباس طلب القبس ، أى الجذوة من النار .
وقولهم للمؤمنين ذلك ، لأنهم فى ظلمة لا يدرون كيف يمشون فيها . وروى أن ذلك يكون على الصراط .
وقوله - سبحانه - { قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً } حكاية لما يرد به عليهم المؤمنون ، أو الملائكة .
أى : قال المؤمنون فى ردهم على هؤلاء المنافقين : ارجعوا وراءكم حيث الموقف الذى كنا واقفين فيه فالتمسوا منه النور ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً ، عن طريق تحصيل سببه وهو الإيمان ، أو ارجعوا خائبين فلا نور لكم عندنا .
وهذا القول من المؤمنين لهم ، على سبيل التهكم بهم ، إذا لا نور وراء المنافقين .
وقوله : { وَرَآءَكُمْ } تأكيد لمعنى { ارجعوا } إذ الرجوع يستلزم الوراء .
ثم بين - سبحانه - ما حدث للمنافقين بعد ذلك فقال : { فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } .
أى : فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين يحاجز عظيم ، هذا الحاجز العظيم ، والسور الكبير { لَّهُ بَابٌ } باطن هذا الباب مما يلى المؤمنين { فِيهِ الرحمة } أى : فيه الجنة ، وظاهر هذا الباب مما يلى المنافقين { مِن قِبَلِهِ العذاب } .
أى : بأنى من جهته العذاب . قالوا : وهذا السور ، هو الحجاب المذكور فى سورة الأعراف فى قوله - تعالى - : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان أن المؤمنين فى مكان آمن تحيط به الجنة ، أما المنافقون ففى مكان مظلم يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار .
ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
وقوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة ، والزلازل العظيمة ، والأمور الفظيعة{[28254]} وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله ، وعمل بما أمر الله ، به وترك ما عنه زجر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق ، ومعنا أبو أمامة الباهلي ، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها ، قال أبو أمامة : أيها الناس ، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر ، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة ، وبيت الظلمة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق ، إلا ما وسع الله ، تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم في بعض تلك المواطن [ حتى ]{[28255]} يغشى الناس أمر من الله ، فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورًا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا ، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه ، قال { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } إلى قوله : { فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : 40 ] ، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى بنور{[28256]} البصير ، ويقول المنافقون للذين آمنوا : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين{[28257]} حيث قال : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور ، فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب ، { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية . يقول سليم بن عامر : فما يزال المنافق مغترًا حتى يقسم النور ، ويميز الله بين والمؤمن المنافق .
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا ابن حيوة ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، حدثنا يوسف بن الحجاج ، عن أبي أمامة قال : تُبْعَثُ ظلمة يوم القيامة ، فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه ، حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم ، فيتبعهم المنافقون فيقولون : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } .
وقال العَوْفي ، والضحاك ، وغيرهما ، عن ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورًا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور{[28258]} دليلا من الله إلى الجنة ، فلما رأي المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا . قال المؤمنون : { ارْجِعُوا } من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسن بن علوية القطان ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، حدثنا إسحاق بن بشر أبو{[28259]} حذيفة ، حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترًا منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورًا ، وكل منافق نورًا ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وقال المؤمنون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] . فلا يذكر عند ذلك أحد أحدًا " {[28260]} وقوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } قال الحسن ، وقتادة : هو حائط بين الجنة النار .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الذي قال الله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } [ الأعراف : 46 ] . وهكذا روي عن مجاهد ، رحمه الله ، وغير واحد ، وهو الصحيح .
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } أي : الجنة وما فيها { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي : النار . قاله قتادة ، وبن زيد ، وغيرهما .
قال ابن جرير : وقد قيل : إن ذلك السور سورُ بيت المقدس عند وادي جهنم . ثم قال : حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عطية بن قيس ، عن أبي العوام - مؤذن بيت المقدس - قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : إن السور الذي ذكر{[28261]} الله في القرآن : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه ، وظاهره وادي جهنم .
ثم روي عن عبادة بن الصامت ، وكعب الأحبار ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، نحو ذلك . وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك ، لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم ؛ فإن الجنة في السموات في أعلى عليين ، والنار في الدركات أسفل سافلين . وقول كعب الأحبار : إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد ، فهذا من إسرائيلياته وتُرّهاته . وإنما المراد بذلك : سورٌ يُضْرَب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا دُخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة .