ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء جامع للمؤمنين ، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
والصبر معناه : حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات .
والمصابرة : هى المغالبة بالصبر : بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه .
ورابطوا : من المرابطة وهى القيام على الثغور الإسلامية لحمياتها من الأعداء ، فهى استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء .
والمعنى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه ؛ فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر .
و { وَصَابِرُواْ } أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التى تستلزم الصبر وتقتضيه .
قال صاحب الكشاف : { وَصَابِرُواْ } أعداء الله فى الجهاد ، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب ، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعبوته " .
و { وَرَابِطُواْ } أى أقيموا على مرابطة الغزو فى نحر العدو بالترصد له ، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون .
ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون فى سبيل الله نصف العام ، ويطلبون قوتهم بالعمل فى النصف الآخر .
ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام ، ومن ذلك ما رواه البخاري فى صحيحه عن سهل ابن سعد الساعدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " .
وروى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذى رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة . فذلكم الرباط " .
قال القرطبى : بعد أن ساق هذا الحديث - : " والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة فى سبيل الله - وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الرب . وقول النبى صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " إنما هو تشبيه بالرباط فى سبيل الله " .
ومما يدل على أن المرابطة فى سبيل الله م أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها ، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك - وهو يرابط بطرسوس - إلى صديقه الفضيل بن عياض - وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام - كتب إليه عبد الله يقول :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا . . . لعلمت أنك فى العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه . . . فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله فى باطل . . . فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا . . . رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا . . . قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوى غبار خيل الله فى . . . أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا . . . ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال : صدق عبد الله .
وقوله { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره ، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر فى الدنيا ، والثواب الحسن فى الآخرة .
وبعد : فهذه سورة آل عمران ، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة ، وآداب عالية وتشريعات سامية و تربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده .
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثم يجيء الإيقاع الأخير ، في نداء الله للذين آمنوا ، وتلخيص أعباء المنهج ، وشرط الطريق :
( يا أيها الذين آمنوا اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء :
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة ، والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين ، ويذكر إن مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك ، مفروش بالدماء والأشلاء ، وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب ! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهمللثمار ! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء ! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحيانا في الخير ، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ؛ والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط ! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء ! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا ، ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان !
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي ؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكلتكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام ! !
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ؛ ويحرسه أن يضعف ؛ ويحرسه أن يعتدي ؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار :
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا الكفار ورابطوهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن أنه سمعه يقول في قول الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدّة ولا رخاء ، ولا سرّاء ولا ضرّاء ، وأمرهم أن يصابروا الكفار ، وأن يرابطوا المشركين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } : أي اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله ، { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : { اصْبِرُوا } على الطاعة ، { وَصَابِرُوا } أعداء الله ، { وَرَابِطُوا } في سبيل الله .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدوّ ورابطوهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورابطوا أعداءكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الاَية : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوّي وعدوّكم ، حتى يترك دينه لدينكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوّكم ورابطوهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوّكم ، ورابطوا على عدوّكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله المرّي ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب ، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوّف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وقال آخرون : معنى : { وَرَابِطُوا } : أي رابطوا على الصلوات : أي انتظروها واحدة بعد واحدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، قال : ثني داود بن صالح ، قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الاَية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قال : قلت لا . قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جدّه ، عن شرحبيل عن عليّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلّكُمْ على ما يُكَفّرُ اللّهُ بِهِ الذّنُوبَ والخَطايا ؟ إسْباغُ الوُضُوءِ على المَكارِهِ ، وانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكَ الرّباطُ » .
حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن مهاجر ، قال : ثني يحيى بن زيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلكُمْ على ما يَمْحُو اللّهَ بِهِ الخطايا ويُكَفّرُ بِهِ الذّنُوبَ ؟ » قال : قلنا بلى يا رسول الله ! قال : «إسْباغُ الوضُوءِ فِي أماكِنِها ، وكَثْرَةُ الخَطا إلى المَساجِدِ ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرّباطُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلّكُمْ على ما يَحُطّ اللّهُ بِهِ الخَطايا وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجاتِ ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله . قال : «إسْباغُ الُوضُوءِ عِنْدَ المَكارِهِ ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرّباطُ فَذَلِكُمُ الرّباطُ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
وأولى التأويلات بتأويل الاَية ، قول من قال في ذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، اصبروا على دينكم ، وطاعة ربكم ، وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئا فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل . فلذلك قلنا إنه عنى بقوله : { اصْبِرُوا } الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها . { وَصَابِرُوا } يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة ، أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدا ، ولا تكون من واحد إلا قليلاً في أحرف معدودة ، وإذ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكن عدوّهم أصبر منهم . وكذلك قوله { وَرَابِطُوا } معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله . وأرى أنّ أصل الرباط : ارتباط الخيل للعدوّ ، كما ارتبط عدوّهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر ، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ، ممن بغاهم بشرّ كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رُجْلة لا مركب له .
وإنما قلنا : معنى { وَرَابِطُوا } : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط . وإنما توجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفيّ ، حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلى الخفيّ من معانيه حجةٌ يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : واتقوا الله أيها المؤمنون ، واحذروه أن تخالفوا أمره ، أو تتقدّموا نهيه ، { لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } يقول : لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد ، وتنجحوا في طلباتكم عنده . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } : واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني .
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء ، والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم ، وقيل معناه : مصابرة وعد الله في النصر ، قاله محمد بن كعب القرظي : أي لا تسأموا وانتظروا الفرج ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «انتظار الفرج بالصبر عبادة »{[3817]} ، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله { ورابطوا } فقال جمهور الأمة معناه : رابطوا أعداءكم الخيل ، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ، ومنه قوله عز وجل : { ومن رباط الخيل }{[3818]} ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة{[3819]} ، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة ، جعل الله بعدها فرجاً ، ولن يغلب عسر يسرين{[3820]} ، وأن الله تعالى يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } الآية ، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن{[3821]} : هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ){[3822]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللفظة مأخوذة من الربط ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول ، وهذا كقوله : ( ليس الشديد بالصرعة ){[3823]} : كقوله : ( ليس المسكين بهذا الطواف ) {[3824]} إلى غير ذلك من الأمثلة ، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء : هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله ابن المواز ورواه ، فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعتمرون ويكتسبون هنالك ، وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين{[3825]} .