ثم ساقت السورة الكريمة مشهدا من مشاهد القيامة - يكشف عن سوء المصير الذى ينتظر الشركاء وينتظر المجرمين . فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . . } .
أى : واذكر - أيها العاقل - يوم يقول الله - تعالى - للمجرمين والكافرين على سبيل التوبيخ والتقريع : أيها الكافرون ، نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم فى هذا الموقف العصيب { فدعوهم } أى : فأطاعوا أمر خالقهم ، ودعوا شركاءهم لكى يستغيثوا بهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } أى : فلم يجدوا منهم أدنى استجابة فضلا عن النفع أو العون .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أى : وجعلنا بين الداعين والمدعوين مهلكا يشتركون فيه جميعا وهو جهنم .
فالموبق : اسم مكان من وبق وبوقا - كوثب وثوبا - أو وبق وبقا كفرح فرحا - إذا هلك . ويقال فلان أوبقته ذنوبه : أى أهلكته . ومنه قوله - تعالى - : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أى يهلكهن . ومنه الحديث الشريف : " كل يغدو فموبق نفسه " - أى ملهكها - ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " أى : المهلكات .
وقيل : الموبق اسم واد فى جهنم فرق الله به بينهم ، أى بين الداعين والمدعوين .
وقيل : كل حاجز بين شيئين فهو موبق .
قال ابن جرير - رحمه الله - بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب ، القول الذى ذكرناه من أن الموبق بمعنى المهلك وذلك أن العرب تقول فى كلامها : قد أوبقت فلانا إذا أهلكته . . " .
ثم يعرض مشهد من مشاهد القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين :
( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم . وجعلنا بينهم موبقا . ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ، ولم يجدوا عنها مصرفا ) . .
إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان . والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا ، ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا . . وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة ، فينادون . لكن الشركاء لا يجيبون !
وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في الموقف المرهوب . وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء . . إنها النار ( وجعلنا بينهم موبقا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } .
يقول عزّ ذكره وَيَوْمَ يَقُولُ الله عزّ ذكره للمشركين به الاَلهة والأنداد نادُوا شُرَكائيَ الَذِينَ زَعَمْتُمْ يقول لهم : ادعوا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في العبادة لينصروكم ويمنعوكم مني فَدَعَوهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ يقول : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم وجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا .
فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلنا بين هؤلاء المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء في الدنيا يومئذٍ عداوة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : جعل بينهم عداوة يوم القيامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، عن عوف ، عن الحسن وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : عداوة .
وقال آخرون : معناه : وجعلنا فعلهم ذلك لهم مَهْلِكا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : مَهْلِكا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مَوْبِقا قال : هلاكا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : الموبق : المهلك ، الذي أهلك بعضهم بعضا فيه ، أوبق بعضهم بعضا . وقرأ وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهمْ مَوْعِدا .
حُدثت عن محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك مَوْبِقا قال : هلاكا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عَرْفَجة ، في قوله وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : مهلكا .
وقال آخرون : هو اسم واد في جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عمرو البكّاليّ : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاقال : واد عميق فُصِل به بين أهل الضلالة وأهل الهدى ، وأهل الجنة ، وأهل النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا ذكر لنا أن عَمرا البكَالي حدّث عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو واد عميق فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الحجاج بن أرطاة ، قال : قال مجاهد وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : واديا في النار .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : واديا في جهنم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عزّ وجلّ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا قال : واد في جهنم من قيح ودم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ومن وافقه في تأويل الموبق : أنه المهلك ، وذلك أن العرب تقول في كلامها : قد أوبقت فلانا : إذا أهلكته . ومنه قول الله عزّ وجلّ : أوْ يُوبِقْهُنّ بِمَا كَسَبُوا بمعنى : يهلكهنّ . ويقال للمهلك نفسه : قد وبق فلان فهو يوبق وبقا . ولغة بني عامر : يابق بغير همز . وحُكي عن تميم أنها تقول : يبيق . وقد حُكي وبق يبق وبوقا ، حكاها الكسائي . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : الموبق : الوعد ، ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
وحادَ شَرَوْرَى فالسّتارَ فَلَمْ يَدَعْ *** تِعارا لَهُ والوَادِيَيْنِ بِمَوْبِقِ
ويتأوّله بموعد . وجائز أن يكون ذلك المهلك الذي جعل الله جلّ ثناؤه بين هؤلاء المشركين ، هو الوادي الذي ذكر عن عبد الله بن عمرو ، وجائز أن يكون العداوة التي قالها الحسن .
{ ويوم يقول } أي الله تعالى للكافرين وقرأ حمزة بالنون . { نادوا شُركائي الذين زعمتم } أنهم شركائي وشفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي ، وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ والمراد ما عبد من دونه ، وقيل إبليس وذريته . { فدعوهم } فنادوهم للإغاثة { فلم يستجيبوا لهم } فلم يغيثوهم . { وجعلنا بينهم } بين الكفار وآلهتهم . { موبقاً } مهلكا يشتركون فيه وهو النار ، أو عداوة هي في شدتها هلاك كقول عمر رضي الله عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا . و{ موبقا } اسم مكان أو مصدر من وبق يوبق وبقا إذا هلك . وقيل البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة .
وقوله { ويوم يقول } الآية وعيد ، المعنى واذكر يوم ، وقرأ طلحة ويحيى والأعمش وحمزة «نقول » بنون العظمة ، وقرأ الجمهور بالياء أي «يقول » الله تعالى للكفار الذين أشركوا به من الدنيا سواه : { نادوا شركائي } أي على وجه الاستغاثة بهم ، وقوله { شركائي } أي على دعواكم أيها المشركون وقد بين هذا بقوله { الذين زعمتم } وقرأ ابن كثير وأهل مكة «شركاي » بياء مفتوحة ، وقرأ الجمهور : «شركائي » بهمزة . فمنهم من حققها ، ومنهم من خففها ، و «الزعم » إنما هو مستعمل أبداً في غير اليقين ، بل أغلبه في الكذب ، ومنه هذه الآية ، وأرفع موضعه أن يستعمل «زعم » بمعنى أخبر ، حيث تبقى عهدة الخبر على المخبر ، كما يقول سيبويه رحمه الله : زعم الخليل . وقوله { فدعوهم } فلم يستجيبوا لهم ظاهره أن ذلك يقع حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة ، كأن فكرة الكفار ونظرهم في أن تلك الجمادات ، لا تغني شيئاً ولا تنفع ، هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة ، والأول أبين ، واختلف المتأولون في قوله { موبقاً } قال عبد الله ابن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد : هو واد في جهنم يجري بدم وصديد ، قال أنس : يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين ، فقوله على هذا { بينهم } ظرف ، وقال الحسن { موبقاً } معناه عداوة و { بينهم } على هذا ظرف ، وبعض هذه الفرقة ، يرى أن الضمير في قوله { بينهم } يعود على المؤمنين والكافرين ، ويحتمل أن يعود على المشركين ومعبوداتهم ، وقال ابن عباس { موبقاً } معناه مهلكاً بمنزلة موضع وهو من قولك وبق الرجل وأوبقه غيره إذا أهلكه ، فقوله { بينهم } على هذا التأويل ، يصح أن يكون ظرفاً ، والأظهر فيه أن يكون اسماً ، بمعنى جعلنا تواصلهم أمراً مهلكاً لهم ، ويكون { بينهم } مفعولاً أولاً ل { جعلنا } ، وعبر بعضهم عن الموبق بالموعد وهذا ضعيف .
عطف على جملة { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الكهف : 50 ] فيقدر : واذكر يوم يقول نادوا شركائي ، أو على جملة { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] ، فالتقدير : ولا أشهدت شركاءهم جميعاً ولا تنفعهم شركاؤهم يوم الحشر ، فهو انتقال من إبطال معبودية الشيطان والجن إلى إبطال إلهية جميع الآلهة التي عبدها دهماء المشركين مع بيان ما يعتريهم من الخيبة واليأس يومئذٍ . وقد سلك في إبطال إلهيتها طريق المذهب الكلامي وهو الاستدلال على انتفاء الماهية بانتفاء لوازمها ، فإنه إذا انتفى نفعها للذين يعبدونها استلزم ذلك انتفاء إلهيتها ، وحصل بذلك تشخيص خيبتهم ويأسهم من النجاة .
وقرأة الجمهور { يقول } بياء الغيبة وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى لدلالة المقام عليه ، وقرأ حمزة { نقول } بنون العظمة .
واليوم الذي يقع فيه هذا القول هو يوم الحشر . والمعنى : يقول للمشركين ، كما دل عليه قوله : { الذين زعمتم } ، أي زعمتموهم شركائي . وقدم وصفهم بوصف الشركاء قبل فعل الزعم تهكماً بالمخاطبين وتوبيخاً لهم ، ثم أردف بما يدل على كذبهم فيما ادعوا بفعل الزعم الدال على اعتقاد باطل .
والنداء : طلب الإقبال للنصرة والشفاعة .
والاستجابة : الكلام الدال على سماع النداء والأخذُ في الإقبال على المنادي بنحو قول : لبيكم .
وأمره إياهم بمناداة شركائهم مستعمل في معناه مع إرادة لازمه وهو إظهار باطلهم بقرينة فعل الزعم . ولذلك لم يسعهم إلا أن ينادوهم حيث قال { فدعوهم } لطمعهم ، فإذا نادوهم تبين لهم خيبة طمعهم . ولذلك عطف فعل الدعاء بالفاء الدالة على التعقيب . وأتي به في صيغة المضي للدلالة على تعجيل وقوعه حينئذٍ حتى كأنه قد انقضى .
والموبق : مكان الوُبوق ، أي الهلاككِ . يقال : وبَق مثل وَعَد ووجل وورِث . والموبق هنا أريد به جهنم ، أي حين دعوا أصنامهم بأسمائهم كوَّن الله فيما بين مكانهم ومكان أصنامهم فَوهات جهنم ، ويجوز أن تكون جملة { وجعلنا بينهم موبقاً } جملة حال أي وقد جعلنا بينهم موبقاً تمهيداً لما بعده من قوله : { ورأى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .