والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } يعود إلى القضية أو المسألة التى عرضها الخصمان على داود وسليمان .
أى : ففهمنا سليمان الحكم النسب والأوفق فى هذه المسألة أو القضية ، وذلك لأن داود - كما يقول العلماء . قد اتجه فى حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث . وهذا عدل فحسب . أما حكم سليمان فقد تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير ، وهذا هو العدل الحى الإيجابى فى صورته البانية الدافعة ، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء " .
وقوله - سبحانه - : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ثناء من الله - تعالى - على داود وسليمان - عليهما السلام - والمقصود من هذا الثناء دفع ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن داود لم يكن مصيبا فى حكمه .
أى : وكلا من داود وسليمان قد أعطيناه من عندنا { حُكْماً } أى : نبوة وإصابة فى القول والعمل { وَعِلْماً } أى : فقها فى الدين ، وفهما سليما للأمور .
وقد توسع بعض المفسرين فى الحديث عن هذا الحكم الذى أصدره داود وسليمان فى قضية الحرث أكان بوحى من الله إليهما ، أم كان باجتهاد منهما ، وقد رجح بعض العلماء أنه كان باجتهاد منهما فقال : اعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان فى الحرث المذكور فى هذه الآية كان بوحى ، إلا أن ما أوحى إلى سليمان كان ناسخا لما أوحى إلى داود .
وفى الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحى ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما لعدم إصابته .
كما أثنى - سبحانه - على سليمان بالإصابة فى قوله { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وأثنى عليهما فى قوله : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } .
فدل قوله { إِذْ يَحْكُمَانِ } على أنهما حكما فيها معا ، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحى لكان مفهما إياها كما نرى .
فقوله : { إِذْ يَحْكُمَانِ } مع قوله { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } قرينة على أن الحكم لم يكن بوحى بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفيهم الله إياه ذلك .
والقرينة الثانية : هى أن قوله - تعالى - { فَفَهَّمْنَاهَا } يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع ، لا أنه - تعالى - أنزل عليه فيها وحياً جديدا ناسخاً ، لأن قوله - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا } أليق بالأول من الثانى كما ترى . . .
ثم بين - سبحانه - نماذج من النعم التى أنعم بها على داود - عليه السلام - فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ } .
والتسخير : التذليل أى : وجعلنا الجبال والطير يسبحن الله - تعالى - ويقدسنه مع داود ، امتثالا لأمره - سبحانه - .
قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته ، بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير فى الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا . ولهذا لما مر النبى - صلى الله عليه وسلم - على أبى موسى الأشعرى ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب ، فوقف واستمع إليه وقال : " لقد أوتى هذا من مزامير آل داود " .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب ، وأدل على القدرة ، وأدخل فى الإعجاز ، لأنها جماد ، والطير حيوان ، إلا أنه غير ناطق ، روى أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهى تجاوبه ، وقيل : كانت تسير معه حيث سار . . .
وتسبيح الجبال والطير مع داود - عليه السلام - هو تسبيح حقيقى ، ولكن بكيفية يعلمها الله - تعالى - كما قال - سبحانه - { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } وشبيه بالآية التى معنا قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وقوله - سبحانه - : { اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أى : وكنا فاعلين ذلك لداود من تسخير الجبال والطير معه يسبحن الله وينزهنه عن كل سوء ، على سبيل التكريم له . والتأييد لنبوته ، إذ أن قدرتنا لا يعجزها شىء ، سواء أكان هذا الشىء مألوفا للناس أم غير مألوف .
فألهم سليمان حكما أحكم ، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب .
لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث . وهذا عدل فحسب . ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير . وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة . وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء .
ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) . . وليس في قضاء داود من خطأ ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب ، لأنه من نبع الإلهام .
ثم يعرض السياق ما اختص به كلا منهما . فيبدأ بالوالد :
( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير . وكنا فاعلين . وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون ? ) .
وقد عرف داود - عليه السلام - بمزاميره . وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون ، فتتجاوب أصداؤها حوله ، وترجع معه الجبال والطير . .
وحينما يتصل قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله ؛ وينبض قلب الوجود معه ؛ وتنزاح العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق والفواصل التي تميز الأنواع والأجناس ، وتقيم بينها الحدود والحواجز ، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون وحقيقته .
وفي لحظات الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل ، واحتوائها على الكل . . عندئذ لا تحس بأن هنالك ما هو خارج عن ذاتها ؛ ولا بأنها هي متميزة عما حولها . فكل ما حولها مندمج فيها وهي مندمجة فيه .
ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره ، فيسهو على نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة . وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء . فيحس ترجيعها ، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه . وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل ، وينطلق مع أرواح الكائنات ، المتجهة كلها إلى الله .
( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) . . ( وكنا فاعلين )فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد . يستوي أن يكون مألوفا للناس أو غير مألوف .
وقوله : فَفَهّمْناها يقول : ففهّمنا القضية في ذلك سُلَيْمانَ دون داود . وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما يقول : وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما : يعني وعلما بأحكام الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا : حدثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته . قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبيّ الله قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتُدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت إلى الكرم صاحبه ودَفعت الغنم إلى صاحبها . فذلك قوله : فَفَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . إلى قوله : وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ يقول : كنا لمِا حكما شاهدين . وذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث والاَخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يُبق من حرثي شيئا . فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك فقضى بذلك داود . ومرّ صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبيّ الله إن القضاء سوى الذي قضيت . فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفي على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كلّ عام . فقال داود : قد أصبت ، القضاءُ كما قضيتَ . ففهّمها الله سليمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عليّ بن زيد ، قال : ثني خليفة ، عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرّعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا . فأُخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها وألبانها وسِلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث وردّوا الغنم إلى أصحابها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنم القَوْمِ قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجِزّة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعايتها على أهل الحرث ، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أُكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : وعليهم رعيها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلاً ، فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث . فمرّوا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا ، تُدفع الغنم فيصيبون منها يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردّوا عليهم . فنزلت : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان النفْش ليلاً ، وكان الحرث كرما ، قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه ، فاجعل له أصوافها وألبانها قال : فهو قول الله : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا ابن أبي زياد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غَزْلاً لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلاً ؟ قال : إن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه ، وإن كان ليلاً فقد ضمن . ثم قرأ : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان النفش ليلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن شريح بنحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبيّ ، عن شريح ، مثله .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . . الاَية ، النفْش بالليل ، والهَمَل بالنهار . وذُكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلاً ، فرُفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها وَرسْلها وعوارضها وجُزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه . فقال الله : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة والزهري : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : نفشت غنم في حرث قوم . قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلاً ، فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ، ولكن خذوا الغنم ، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : في حرث قوم . قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار . قال قَتادة : فقضي أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ . . . الاَيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت وكأنه رأى أنه وجه ذلك . فمرّوا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبيّ الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا : نعم . فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب ، واحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك فأعطه حرثه وخذ غنمك فذلك قول الله تبارك وتعالى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ . وقرأ حتى بلغ قوله : وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : رعت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : النفش : الرعية تحت الليل .
قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة بن مسعود ، قال : دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته ، فرفُع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، وقال : «عَلى أصحَابِ المَاشِيَةِ حِفْظُ المَاشِيَةِ باللّيْلِ ، وَعَلى أصحَابِ الحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطانِهِمْ بالنّهارِ » .
قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلاً دخلت ما شيته زرعا لرجل فأفسدته ، ولا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا ، فمرّا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبيّ الله ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الزرع . فقال : إن الحكم لعلى غير هذا ، انصرفا معي فأتى أباه داود ، فقال : يا نبيّ الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم . قال : يا نبيّ الله ، إن الحكم لعلى غير هذا . قال : وكيف يا نُبيّ الله ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع فيصيب من ألبانها وسمُونها وأصوافها ، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حالة التي أصابته الغنم عليها رُدّت الغنم على صاحب الغنم ورُدّ الزرع إلى صاحب الزرع . فقال داود : لا يقطع الله فَمَك فقضى بما قضى سليمان . قال الزهريّ : فذلك قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . إلى قوله : حُكْما وَعِلْما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنّف الله داود في حكمه .
وقوله : وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ يقول تعالى ذكره : وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح .
وكان قَتادة يقول في معنى قوله : يُسَبّحْنَ في هذا الموضع ما :
حدثنا به بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ : أي يصلين مع داود إذا صلى .
وقوله : وكُنّا فاعِلِينَ يقول : وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، ومسخروا الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام .
{ ففهمناها سليمان } الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ " فأفهمناها " . روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان . ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظهما بالليل " . وعند أبي حنيفة لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ لقوله صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار " . { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه . وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : { ففهمناها } ولولا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام . وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و { مع } متعلقة ب { سخرنا } أو { يسبحن } { والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه . وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف . { وكنا فاعلين } لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ففهمناها سليمان} يعني: القضية ليس يعني به الحكم، ولو كان الحكم لقال ففهمناه، {وكلا} يعني: داود وسليمان {ءاتينا} يعني: أعطينا {حكما وعلما} يعني: الفهم والعلم، فصوب قضاء سليمان، ولم يعنف داود. {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} يعني: يذكرن الله، عز وجل كلما ذكر داود ربه عز وجل، ذكرت الجبال ربها معه، {و} سخرنا له {الطير وكنا فاعلين} ذلك بداود.
سمعت زيد بن أسلم يقول: {وكلا آتينا حكما وعلما} إن الحكمة، العقل،
والذي يقع بقلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر، وتجد آخر ضعيفا في دنياه، عالما في أمر دينه، بصيرا به، يؤتيه الله إياه ويحرم هذا، فهذه الحكمة الفقه في دين الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَفَهّمْناها": ففهّمنا القضية في ذلك "سُلَيْمانَ "دون داود.
"وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما "يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا "حكما" وهو النبوة، "وعلما": يعني وعلما بأحكام الله...
"وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ" يقول تعالى ذكره: وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح...
"وكُنّا فاعِلِينَ": وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك، ومسخرو الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 78]
قال بعض الناس: دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داوود ذلك. ويدل على ذلك وجوه:
أحدها: إشراكه عز وجل إياهما جميعا في الحكم والعلم وغيره حين قال: {إذ يحكمان في الحرث} وقال: {وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79] ذكر ما كانا مشتركين فيه، وخص سليمان بالتفهيم. فدل التخصيص بالشيء على أحدهما، والإشراك في الآخر على أنه كان مخصوصا به دون الآخر.
والثاني: أن هذه الأنباء إنما ذُكرت لنا لنستفيد بها علما لم يكن. فلو لم يكن سليمان مخصوصا بالفهم دون داود لكان يفيدنا سوى الحكم والعلم، وكنا نعلم أنهما قد أوتيا حكما وعلما، وكانا يحكمان بالعلم. فإذا كان كذلك فدل التخصيص بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مُفَهَّمًا ذلك، والله أعلم.
والثالث: فيه دلالة أن المجتهد إذا حكم، وأصاب الحكم، أنه إنما أصاب بتفهيم الله إياه وبتوفيقه حين أخبر أنه قد آتاهما جميعا العلم، ثم خص سليمان بالتفهيم، والتفهيم هو فعل الله حين أضاف ذلك إلى نفسه...
استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد الرأي.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق...
{وَكُنَّا فاعلين} أي قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 78]
فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى، فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى من جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ من الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ.
{ففهمناها سليمان} والفاء للتعقيب، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقا على هذا التفهيم، وذلك الحكم السابق إما أن يقال: اتفقا فيه أو اختلفا فيه، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله: {ففهمناها سليمان} فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وكنا فاعلين} أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه...
ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود عليه السلام، نفاه بقوله دالاً على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم إنما هو أحدهما {وكلاًّ} أي منهما {ءاتينا} بما لنا من العظمة {حكماً} أي نبوة و عملاً مؤسساً على حكمة العلم، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر حكماً -أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق {وعلماً} مؤيداً بصالح العمل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والذي عندي أن حكْمَهما عليهما السلام كان بالاجتهاد فإن قولَ سليمان عليه الصلاة والسلام: غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين، ثم قولُه: أرى أن تُدفع الخ، صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبتّ القولَ بذلك، ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يُظهِره بدْأً وحرُم عليه كتمُه، ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد، بل أقول: والله تعالى أعلم إن رأْيَ سليمان عليه السلام استحسانٌ، كما ينبئ عنه قوله: أرفقُ بالفريقين، ورأيَ داودَ عليه السلام قياسٌ.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}... ومما يستفاد من ذلك: دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم، من عدم كون حكم داود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فألهم سليمان حكما أحكم، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب. لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء. ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم: (وكلا آتينا حكما وعلما).. وليس في قضاء داود من خطأ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ففهمناها سليمان} أنه ألهمهُ وجهاً آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفقُ بهما، فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير.
وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة. وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} في معرض الثناء عليهما. وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلاً في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلاً وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة...