وإذا أصاب الإنسان مكروه - من مكاره الدنيا - دعا ربه راجعاً إليه بعد أن كان معرضاً عنه ، ثم إذا أعطاه ربه نعمة عظيمة نسى الضر الذي كان يدعو ربه إلى إزالته وكشفه من قبل أن يمن عليه بهذه النعمة ، وجعل لله شركاء متساوين معه في العبادة ، فعل هذا الإنسان ذلك ليضل نفسه وغيره عن طريق الله . قل - يا محمد - لمن هذه صفته متوعداً : تمتع بكفرك بنعم الله عليك زمناً قليلاً ، إنك من أهل النار .
( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه . ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل ، وجعل لله أنداداً ، ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً ، إنك من أصحاب النار ) . .
إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر ؛ ويسقط عنها الركام ؛ وتزول عنها الحجب ، وتتكشف عنها الأوهام ؛ فتتجه إلى ربها ، وتنيب إليه وحده ؛ وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره . وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء .
فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ، ويخوله الله نعمة منه ، ويرفع عنه البلاء . فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام ، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه . وتطلعه إليه في المحنة وحده ، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته . . ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أنداداً . إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى ؛ وإما قيماً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعل لها في نفسه شركة مع الله ، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة ! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة ؛ ويحبها كما يحب الله أو أشد حباً ! والشرك ألوان . فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركاً ، لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم .
وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله . فسبيل الله واحد لا يتعدد . وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه . والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب . لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولاأرض ولا صديق ولا قريب ، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله ، وضلال عن سبيل الله ، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض :
( قل : تمتع بكفرك قليلاً : إنك من أصحاب النار ) . .
وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال . وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر . بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل ، حين يقاس إلى أيام الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمّ إِذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوَ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلّهِ أَندَاداً لّيُضِلّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنّكَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ } :
يقول تعالى ذكره : وإذا مسّ الإنسان بلاء في جسده من مرض ، أو عاهة ، أو شدّة في معيشته ، وجهد وضيق دَعا رَبّهُ يقول : استغاث بربه الذي خلقه من شدّة ذلك ، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدّة ذلك . وقوله : مُنِيبا إلَيْهِ يقول : تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به ، وإشراك الاَلهة والأوثان به في عبادته ، راجعا إلى طاعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَإذَا مَسّ الإنْسانَ ضُرّ ) : قال : الوجع والبلاء والشدّة دَعا رَبّهُ مُنِيبا إلَيْهِ قال : مستغيثا به .
وقوله : ( ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نَعْمَةً مِنْهُ ) : يقول تعالى ذكره : ثم إذا منحه ربه نعمة منه ، يعني عافية ، فكشف عنه ضرّه ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء . والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره : قد خوّله ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ :
أعْطَى فَلْم يَبْخَلْ ولَمْ يُبَخّلِ *** كُومَ الذّرَا مِنْ خَوَلِ المُخَوّلِ
وحدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال : سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر :
هُنالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلوا *** وإنْ يُسْأَلُوا يُعْطوا وَإنْ يَيْسِرُوا يُغْلوا
قال معمر : قال يونس : إنما سمعناه :
هُنالكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا المَالَ يُخْبِلوا ***
قال : وهي بمعناها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( ثُمّ إذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مِنْه )ُ : إذا أصابته عافية أو خير .
وقوله : ( نَسِيَ ما كانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ) : يقول : ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ وَجَعَلِ لِلّهِ أنْدَادا يعني : شركاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ نَسِيَ يقول : ترك ، هذا في الكافر خاصة .
ول«ما » التي في قوله : نَسِيَ ما كانَ وجهان : أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ويكون معنى الكلام حينئذٍ : ترك الذي كان يدعوه في حال الضرّ الذي كان به ، يعني به الله تعالى ذكره ، فتكون «ما » موضوعة عند ذلك موضع «مَنْ » كما قيل : وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ يعني به الله ، وكما قيل : فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ . والثاني : أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت . وإذا كانت بمعنى المصدر ، كان في الهاء التي في قوله : إلَيْهِ وجهان : أحدهما : أن يكون من ذكر ما . والاَخر : من ذكر الربّ .
وقوله : وَجَعَلَ لِلّهِ أنْدَادا يقول : وجعل لله أمثالاً وأشباها .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا ، قال بعضهم : جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجَعَلَ لِلّهِ أنْدَادا قال : الأنداد من الرجال : يطيعونهم في معاصي الله .
وقال آخرون : عنى بذلك أنه عبد الأوثان ، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عَنَى به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان ، فجعل له الأوثان أندادا ، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها .
وقوله : ( لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِهِ ) : يقول : ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده ، والإقرار به ، والدخول في الإسلام .
وقوله : ( قُلْ تَمَتّعْ بكُفْرِكَ قَلِيلاً ) : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لفاعل ذلك : تمتع بكفرك بالله قليلاً إلى أن تستوفَي أجلك ، فتأتيك منيتك إنّكَ مِنْ أصحَابِ النّارِ : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها .