179- ما كان اللَّه ليترككم - يا معشر المؤمنين - على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق ، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف لتروا المنافق الخبيث والمؤمن الطيب ، ولم تجر سنة اللَّه بإطلاع أحد من خلقه على شيء من غيبه ، ولكن اللَّه يصطفي من يشاء بإطلاعه على ما يشاء من غيبه ، وإن تؤمنوا وتتقوا ربكم بالتزام طاعته يدخلكم الجنة جزاء ، ونعم الجزاء إذ هي جزاء عظيم .
ثم بين - سبحانه - بعض الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد فقال - تعالى - { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } .
وقوله { لِيَذَرَ } أى ليترك . والمراد بالمؤمنين : المخلصون الذين صدقوا فى إيمانهم والمراد بقوله { على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أى اختلاط المؤمنين بالمنافقين واستواؤهم فى إجراء الأحكام .
ومعنى يميز يفصل . وقرىء يميز أن يحدد ويبين .
والمراد بالخبيث : المنافق ومن على شاكلته من ضعاف الإيمان .
والمراد بالطيب : الصادق فى إيمانه .
والمعنى : ليس من شأن الله - تعالى - ولا من حكمته وسنته فى خلقه أن يترككم أيها المؤمنون على ما أنتم عليه من الالتباس واختلاط المنافقين بكم ، بل الذى من شأنه وسنته أن يبتليكم ويمتحنكم بألوان من المصائب والشدائد حتى يتميز المؤمنون من المنافقين ، وينفصل الأخيار عن الأشرار .
قال ابن كثير : أى لا بد أن يعقد سبباً من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، يعنى بذلك يوم أحد الذى امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله لرسوله وهتك به ستار المنافقين ، فظهرت مخالفتهم ، ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ولرسوله . قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد " .
وعبر - سبحانه - عن المؤمن بالطيب ، وعن المنافق بالخبيث ، ليسجل على كل منهما ما يليق به من الأوصاف ، وللإشعار بعلة الحكم .
وقوله { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } معطوف على قوله { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } .
والغيب : ضد المشاهد . وهو كل ما غاب عن الحواس ولا تمطن معرفته إلا عن طريق الوحى من الله - تعالى - على رسوله صلى الله عليه وسلم .
واجتبى : من الاجتباء بمعنى الاختيار والاصطفاء .
أى : وما كان الله - تعالى - ليعطى أحدا منكم - معشر المؤمنين - علم الغيوب الذى به تعرفون المؤمن من المنافق ، إذ علم ذلك له وحده ، ولكنه - سبحانه - يصطفى من رسله من يريد اصطفاءه فيطلعه على بعض الغيوب ، وأطلعه على حال تلك المرأة التى أرسلها حاطب بن أبى بلتعة برسالة إلى قريش لتخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لحربهم . وأطلعه على بعض أحوال المنافقين .
قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } وفى قوله - تعالى - { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } إيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله - تعالى - لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الناس لإرشادهم .
ثم أمر الله - تعالى - عباده أن يثبتوا على الإيمان ، وبشرهم بالأجر العظيم إذ هم استمروا على ذلك فقال : { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
أى : إذا علمتم أيها المؤمنون أن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يجب عليكم أن تؤمنوا بالله وبرسله حق الإيمان ، وأن تؤمنوا بالله - تعالى - وبرسله حق الإيمان ، وتتقوا المخالفة فى الأمر والنهى ، فلكم فى مقابلة ذلك من الله - تعالى - مالا يقادر قدره من الثواب العظيم ، والأجر الجزيل .
{ مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
يعني بقوله : { ما كانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ } ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا { حَتّى يِمَيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } يعني بذلك : حتى يميز الخبيث ، وهو المنافق المستسر للكفر ، من الطيب ، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان بالمحن والاختبار ، كما ميز بينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليه .
واختلف أهل التأويل في الخبيث الذي عنى الله بهذه الاَية ، فقال بعضهم فيه مثل قولنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : ميز بينهم يوم أُحد ، المنافق من المؤمن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال ابن جريج : يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب . قال : ابن جريج : قال مجاهد : يوم أُحد ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : أي المنافق .
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ } يعني : الكفار . يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة ، { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : يميز بينهم في الجهاد والهجرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر ! فأنزل الله : { ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ على ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } : حتى يخرج المؤمن من الكافر .
والتأويل الأوّل أولى بتأويل الاَية ، لأن الاَيات قبلها في ذكر المنافقين وهذه في سياقتها ، فكونها بأن تكون فيهم أشبه منها بأن تكون في غيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما :
حدثنا به محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولاً .
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } أي فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } يعلمه .
وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده ، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أُحد ، وجهاد عدوّه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم . غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء ، فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ } قال : يخلصهم لنفسه .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الاَية ، ابتداءَها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده ، يعني بغير محن ، حتى يفرّق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم . ثم عقب ذلك بقوله : { وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ } ، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر ، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله : { وَإنْ تُؤْمِنُوا } : وإن تصدّقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي ، وأطلعته على المنافقين منكم ، وتتقوا ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه ، { فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ } يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا } : أي ترجعوا وتتوبوا ، { فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيمٌ } .
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره ، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم ، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم ، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم . وقرأ حمزة والكسائي { حتى يميز } ، هنا وفي " الأنفال " بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء . { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان ، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها . { فآمنوا بالله ورسله } بصفة الإخلاص ، أو بأن تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي ( أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ) فنزلت . عن السدي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر " . فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر . ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت . { وإن تؤمنوا } حق الإيمان . { وتتقوا } النفاق . { فلكم أجر عظيم } لا يقادر قدره .
استئناف ابتدائي ، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أُحُد من الحِكم النافعة دُنيا وأخرى ، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين } [ آل عمران : 166 ] بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم ، فقدّر ذلك زماناً كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة ، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس ، وقرّ للمؤمنين الخالصين المُقام في أمْن ، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمَّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال ، ورأوا انتصارهم يوم بدر ، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم ، بأن أصاب المؤمنين بقَرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين ، وسجّل الله عليهم نفاقهم بادياً للعيان كما قال :
جَزَى الله المصائبَ كلّ خير *** عرفتُ بها عدوّي من صديقي
ومَا صَدْقُ { ما أنتم عليه } هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال .
وحَرْفَا ( على ) الأوّلُ والثاني ، في قوله : { ما أنتم عليه } للاستعلاء المجازي ، وهو التمكّن من معنى مجرورها ويتبيّن الوصف المبهم في الصلة بما وردَ بعد ( حتَّى ) من قوله : { على ما أنتم عليه } ، فيعْلم أنّ ما هُم عليه هو عدمُ التمييز بين الخبيث والطيّب .
ومعنى { ما كان الله ليذر المؤمنين } نفي هذا عن أن يكون مراداً لله نفياً مؤكَّداً بلام الجُحود ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } [ آل عمران : 79 ] إلخ . . .
فقوله : { على ما أنتم عليه } أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق ، فالضمير في قوله : { أنتم عليه } مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين .
والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخُلَّص من النفاق ، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين ، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك ، فلم يقل : ليذركم على ما أنتم عليه تنبيهاً على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين ، ولذلك لم يقل على ما هم عليه .
وقوله : { حتى يميز الخبيث من الطيب } غاية للجحود المستفاد من قوله : { ما كان الله ليذر } المفيد أنّ هذا الوَذْر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعاً منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب ، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطّيب صار هذا الوذر ممكناً ، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله ، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة .
ولحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود ، فمعناها تنهية الاستحالة : ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية ، فيكون حصوله كالمستحيل ، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود ، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفياً ، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي ، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا صاحب « الكشاف » ومتابعوه ، وتنّبه لها أبو حيّان ، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات ، فجعل التقدير : إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان ، حتّى يميز .
وأخذ هذا التأويل من كلام ابنِ عطية ، ولا حاجة إليه على أنّه يمكن أن يتأوّل تأويلاً أحسن ، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطّلاً لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم ، ولكن فيما ذكرته وضوح وتوقيف على استعمال عربيّ رشيق .
و ( مِنْ ) في قوله : { من الطيب } معناها الفصْل أي فصل أحد الضدين من الآخر ، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب « مغني اللبيب » ، ومنه قوله تعالى : { واللَّه يعلم المفسد من المصلح } وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { واللَّه يعلم المفسد من المصلح } في سورة [ البقرة : 220 ] .
وقيل : الخطاب بضمير { ما أنتم } للكفار ، أي : لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق .
وقرأ الجمهور : يَميز بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة من ماز يميز ، وقرأه حمزة ، والكسائي ويعقوب ، وخَلَف بضمّ ياء المضارعة وفتح الميم وياء بعدها مشدّدة مكسورة من ميَّز مضاعف ماز .
وقوله : { وما كان الله ليطلعكم } عطف على قوله : { ما كان الله ليذر } يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم ، ولم يكن من شأن الله إطلاعكم على الغيب ، فلذلك جعل أسباباً من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلّعوا عليهم ، وإنّما قال : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّساً على استفادة المسبّبات من أسبابها ، والنتائج من مقدّماتها .
وقوله : { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين . في نفي الوحي والرسالة ، فيكون المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلاّ ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحد إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] الآية ، فيكون كاستثناء من عموم { ليطلعكم } . ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي : إلاّ الغيب الراجع الى إبلاغ الشريعة ، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله إطلاعهم عليه بل قد يطلعهم ، وقد لا يطلعهم ، قال تعالى :
{ وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعملهم } [ الأنفال : 60 ] .
وقوله : { فآمنوا بالله ورسله } إن كان خطاباً للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى ، وبأنّ وعد الله لا يخلف ، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان ، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين ، وموقع { وإن تؤمنوا وتتقوا } ظاهر على الوجهين ، وإن كان قوله : { فآمنوا } خطاباً للكفار من المنافقين بناء على أنّ الخطاب في قوله : { على ما أنتم عليه } وقوله : { ليطلعكم على الغيب } للكفّار فالأمر بالإيمان ظاهر ، ومناسبة تفريعه عمّا تقدّم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتّت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: {ما كانَ الله لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ} ما كان الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا {حَتّى يِمَيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ} يعني بذلك: حتى يميز الخبيث، وهو المنافق المستسر للكفر، من الطيب، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان بالمحن والاختبار، كما ميز بينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليه...
{وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:
.. عن السدي: {وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ} وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولاً.
وقال آخرون... عن ابن إسحاق: {وَما كانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ} أي فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه: {وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} يعلمه.
وأولى الأقوال في ذلك بتأويله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم بالبأساء يوم أُحد، وجهاد عدوّه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء، فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته... وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، ابتداءَها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده، يعني بغير محن، حتى يفرّق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم. ثم عقب ذلك بقوله: {وَما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغَيْبِ}، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفى عنهم من باطن سرائرهم إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه.
{فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله: {وَإنْ تُؤْمِنُوا}: وإن تصدّقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي، وأطلعته على المنافقين منكم، وتتقوا ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه، {فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيمٌ} يقول: فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيم... عن ابن إسحاق: {فَآمِنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا}: أي ترجعوا وتتوبوا، {فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيمٌ}.
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد، فأخبر تعالى أن الأحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدو، ثم دعائه إياهم مرة أخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق، لأن المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود إلى الجهاد، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الإيمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز، فهذا وجه النظم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. فان المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهر مخبآتهم، وعاد تلويحهم صريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) قرأ حمزة "يميز "-بتشديد الياء- من التمييز والباقون بتخفيفها من ماز. قال الأستاذ الإمام: كان الكلام مسترسلا في بيان حال المؤمنين في واقعة أحد وما بعدها وجاء في السياق بيان حال من ظهر نفاقهم وضعفهم وبيان حال المجاهدين والشهداء ومن هم بمنزلة الشهداء، وحال الكفار المهددين للمسلمين، وكون الإملاء لهم واستدراجهم بطول البقاء في الدنيا ليس خيرا لهم، وقد كانت وقعة أحد أشد واقعة أحس المسلمون عقبها بألم الغلب لأنهم لم يكونوا يتوقعونه بعد رؤية بوادر النصر في "بدر" ولأنه ظهر فيها حال المنافقين، وتبين ضعف نفوس بعض المؤمنين الصادقين؛ ولذلك كانت عناية الله تعالى ببيان فوائد المسلمين فيها عظيمة. ومنها ختمها بهذه الآية الكريمة، المبينة لسنة من السنن التي ذكرت في سياق تلك الآيات الحكيمة، والمعنى: ما كان من شأن الله تعالى ولا من سنته في عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كان عليها المسلمون عند حدوث غزوة أحد حتى يميز الخبيث من الطيب. وكيف كانوا؟
كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد. أما الرخاء واليسر وتكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثة مع التمتع بمزايا الإسلام وفوائده؛ وربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة ولا سيما إذا كان داخلا في دين جديد لما في ذلك من الرياء والسمعة، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه.
الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين وفي ذلك فوائد كثيرة منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال، فإذا عرفه اتقى ذلك- ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.
هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد.
فلما كان هذا اللبس ضارا بالأفراد والجماعات ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب فتظهر الخفايا وتبلى السرائر حتى يرتفع الالتباس؛ ويتضح المنهج السوي للناس.
قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم، ولكن الله تعالى أخبر أن هذا ليس من شأنه ولا من سنته كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته فقال: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانا فإنه تعالى خلق الإنسان نوعا عاملا يحصل جميع رغائبه ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة، ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالابتلاء بالشدائد وما تتقاضاه من بذل الأموال والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق والخير لا سبيل الهوى كما ابتلى المؤمنين في واقعة أحد بجيش عظيم، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، ثم ابتلاهم بظهور العدو عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين، وزلزال ضعفاء المؤمنين، وثبات كلمة الموقنين.
(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) أي يصطفيهم فيطلعهم على ما شاء من الغيب وهو ما في تبليغه للناس مصلحة ومنفعة لهم في الإيمان كصفات الله تعالى واليوم الآخر وبعض شؤونه والملائكة. وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) [البقرة: 1-3] أقول: والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) [الجن: 26-28] وعلى هذا يكون قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسله) متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) أي إن أنتم آمنتم بما جاؤوا به من خبر الغيب وقرنتم بالإيمان تقوى الله تعالى بترك المنهيات وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه.
لذا التقوى ههنا مع الإيمان في قرن وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر وأشهر وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها.
وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وزعم بعضهم أن الله تعالى أطلعه على علم الساعة قبل وفاته. وكل ذلك من الجرأة على الله تعالى والقول عليه بغير علم: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، إن اتبع إلا ما يوحى إلي، قل هو يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون) [الأنعام: 50] هذا ما أمر الله خاتم رسله أن يبلغه خلقه وهو ما أمر به من قبله من الرسل كما قال حكاية عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) [هود: 31] فهم كانوا ينفون أن يكونوا متصرفين في خزائن الله بالإعطاء والمنع وأن يكونوا يعلمون الغيب وأن يكونوا ملائكة أي من غير جنس البشر. وأمر الله نبيه أن يستدل على عدم معرفته الغيب بقوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) [الأعراف: 187] وقال عز وجل: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59] يقولون إنه لا يعلمها غيره بعلم ذاتي استقلالي، ونقول إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله عن نفسه فإن ذلك يفضي إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس، ولا مجال فيه لعقول الناس.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير. فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم -ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء- فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين.
وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم.
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين، أن يميزهم من المنافقين، الذين اندسوا في الصفوف، تحت تأثير ملابسات شتى، ليست من حب الإسلام في شيء. فابتلاهم الله هذا الابتلاء -في أحد- بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم، ليميز الخبيث من الطيب، عن هذا الطريق:
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب. وما كان الله ليطلعكم على الغيب. ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء. فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم)..
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله -سبحانه- وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز؛ يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشىء في الأرض واقعا فريدا، ونظاما جديدا.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض؛ وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة..
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله -سبحانه- أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة!
كذلك ما كان من شأن الله -سبحانه- أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس "مصمما "على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض. وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض!
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)..
وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس.. ويكون من قدر الله ما يكون..
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة؛ وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة..
وامام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل الله العظيم، الذي ينتظر المؤمنين.
(فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم)..
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب، بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان، خير خاتمة لاستعراض الأحداث في "أحد" والتعقيب على هذه الأحداث..
وبعد.. فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة، يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال. فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها، ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
- 1 لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية، وفي طريقته في العمل في حياة البشر. وهي حقيقة أولية بسيطة، ولكنها كثيرا ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء، فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين:في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية، وفي دوره أمس واليوم وغدا..
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين -ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة! دون اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أية مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم!
وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية، وحدود الواقع المادي للبشر. وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه، فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا، أو يؤثران في مدى استجابة الناس له، وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين، وجاذبية المطامع والشهوات، دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا.. حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها! -ما دام هذا الدين من عند الله- أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا!
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد، هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين، وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري، في حدود الطاقة البشرية، ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي، ويسير بهم إلى نهاية الطريق، في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية، ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه.
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة، في أية خطة، وفي أية خطوة، عن طبيعة فطرة الإنسان، وحدود طاقته، وواقعه المادي أيضا. وأنه في الوقت ذاته يبلغ به -كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة- ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق.
ولكن الخطأ كله -كما تقدم- ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها؛ ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري؛ والتي تبذل فطرة الإنسان، وتنشئه نشأة أخرى، لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته، وواقعه المادي كله!
أليس هو من عند الله؟ أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائما؟ ولا ينتصر أصحابه دائما؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا؟
وكلها -كما نرى- أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها!
إن الله قادر -طبعا- على تبديل فطرة الإنسان -عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه- وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى.. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة. وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة. وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما، ولا تمحى، ولا تبدل، ولا تعطل. وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية. وشاء أن يبلغ "الإنسان" من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة.
وليس لأحد من خلقه أن يسأله:لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها! وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم، بالنظام الكلي للكون، وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا "التصميم" الخاص!
و "لماذا؟" -في هذا المقام- سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله كذلك ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله، لأنه أكثر أدبا مع الله -الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته- وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال.. والكافر لا يسأله، لأنه لا يعترف بالله ابتداء. فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه -سبحانه- ومقتضى ألوهيته!
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع. لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد.. ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه!
وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية.. فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر. إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية -حتى يعرفها فهو مؤمن، أو ينكرها فهو ملحد.. وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء!
ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله- سبحانه -لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة، لا تمحى، ولا تعدل، ولا تعطل! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية؟
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة؛ ويراها وهي تعمل في واقع البشرية، ويفسر التاريخ البشري على ضوئها؛ فيفقه خط سير التاريخ من ناحية، ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى.
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام- كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملا، وتستقيم عليه -بقدر طاقتها- وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها؛ وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك؛ وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة.. تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين. وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج.. وتبلغ -بعد ذلك كله- من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا؛ ولا تغفل واقعهم، ومقتضيات هذا الواقع، في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها.. ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة؛ وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة. بقدر ما تبذل من الجهد؛ وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية؛ وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب.. وقبل كل شيء، وقبل كل جهد، وقبل كل وسيلة.. هنالك عنصر آخر:هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض. ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها؛ ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج، وثقتها به، وتوكلها عليه.
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته، وهذه هي خطته الحركية ووسيلته..
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يربيها بأحداث معركة أحد؛ وبالتعقيب على هذه الأحداث..
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها؛ وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها -حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة؛ وتعاني آلامها المريرة. ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم:أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم. إن الله على كل شيء قدير)..
ولكنه- كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص -لا يترك المسلمين عند هذه النقطة، بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج؛ ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء، الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة..
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري، ويتأثر بتصرف البشر إزاءه.. هو خير في عمومه، فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها؛ ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها.. ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان؛ ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية.. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضا- فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة -وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة، متوكلة على الله.
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس؛ وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا، وهو قاعد آمن سالم؛ وتتبين له حقائق في الناس، وفي الحياة، لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة؛ ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه، وبانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبدا، بدون هذه التجربة الشاقة المريرة.
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته؛ ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها. مدى احتمال كل لبنة، ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام.
وهذا ما أراد الله- سبحانه -أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهو يربيها بالأحداث في "أحد" وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة. وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا).. وهو يقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب). ثم.. وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا؛ فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء. والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)..
وإذن فهو- في النهاية -قدر الله وتدبيره وحكمته، من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات.. وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل، يستقر في النفس من وراء الأحداث، والتعقيب المنير على هذه الأحداث.
- 2 وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة الجهد البشري، ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
إن النفس البشرية ليست كاملة- في واقعها -ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء، حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية- كما هو وعلى الطبيعة -ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).. وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق.. فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر، فيهم الضعف وفيهم النقص، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم). ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم).. وفيهم من يقول الله عنهم: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون).. وفيهم من ينهزم وينكشف، وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم. فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم..
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون؛ ولكنهم كانوا في أوائل الطريق. كانوا في دور التربية والتكوين. ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر، مسلمين أمرهم لله، مرتضين قيادته، ومستسلمين لمنهجه. ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه، بل رحمهم وعفا عنهم؛ وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، وأمره أن يشاورهم في الأمر، بعد كل ما وقع منهم، وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه- سبحانه -تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك، وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير.. ولكنه لم يطردهم خارج الصف، ولم يقل لهم:إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر، بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف.. لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم، ورباهم بالابتلاء، ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء، والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات. في رحمة وفي عفو وفي سماحة؛ كما يربت الكبير على الصغار؛ وهم يكتوون بالنار، ليعرفوا ويدركوا وينضجوا. وكشف لهم ضعفهم، ومخبآت نفوسهم، لا ليفضحهم بها، ويرذلهم، ويحقرهم، ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا. ولكن ليأخذ بأيديهم، ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين.
ثم وصلوا.. وصلوا في النهاية، وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة. وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح، يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هيابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل)..
ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا.. تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار. بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة؛ ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين، تلك المؤاخذة العسيرة، يجد الفرق واضحا في المعاملة؛ ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة. كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد، والقوم يوم تبوك.. وهم هم.. ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق.. ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا. وظل فيهم الضعف، والنقص، والخطأ. ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله.
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج؛ ولا يبدلها أو يعطلها، ولا يحملها ما لا تطيق. وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية، لتحاول وتبلغ، في ظل هذا المنهج الفريد. فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة، إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه. وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية. متخلفة في كل شيء. على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس.. وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي، مهما تكن قابعة في السفح. ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة، فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر. فهي ليست وليدة خارقة عابرة. إنما هي وليدة المنهج الإلهي، الذي يتحقق بالجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية -والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير!
هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها، ومن الواقع المادي الذي هي فيه. ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة.. من السفح.. ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان، إلى ذلك الأوج السامق..
شرط واحد لا بد أن يتحقق.. أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج. أن تؤمن به. وأن تستسلم له. وأن تتخذه قاعدة حياتها، وشعار حركتها، وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل..
- وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها.. حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة، وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان. الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة.. فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة.
والمنهج الإلهي- من ثم -يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية. مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط، متكاملة في الوقت ذاته وشاملة. والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط.. وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل، الذي يأخذ الحياة جملة، ولا يأخذها مزقا وتفاريق. والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعا، ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة، في قبضته، فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة، لا تصيب النفس بالفصام، ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام.
ومن نماذج هذا التجميع، وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه- في التعقيب القرآني -عن الخطيئة، وأثرها في النصر والهزيمة. فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا).. كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا- وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به -بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا- والله يحب الصابرين -وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. والله يحب المحسنين.. وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة، توجيهها للتطهر والاستغفار: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله -ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).. ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم:الاعتداء والمعصية: (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا- إلا بحبل من الله وحبل من الناس -وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)..
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة، يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة، كما نجد الكلام عن "التقوى" وتصوير حالات المتقين، يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة. ويربط بين جو السورة كلها- على اختلاف موضوعاتها -وجو المعركة. كما نجد الدعوة إلى ترك الربا، وإلى طاعة الله والرسول، وإلى العفو عن الناس، وكظم الغيظ، والإحسان،.. وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية.. والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي إلهام.
- وحقيقة رابعة.. عن طبيعة منهج التربية الإسلامي.. فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث، وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات، ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث.. على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد.. وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة، ليصحح تأثره، ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح! وهو لا يدع جانبا من الجوانب، ولا خاطرة من الخواطر، ولا تصورا من التصورات، ولا استجابة من الاستجابات، حتى يوجه إليها الأنظار،ويسلط عليها الأنوار، ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة، ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية؛ وبذلك يمحص الدخائل، وينظفها ويطهرها في وضح النور؛ ويصحح المشاعر والتصورات والقيم؛ ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين، وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة.. مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق..
وننظر في التعقيب على غزوة أحد، فنجد الدقة والعمق والشمول.. الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة؛ والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة؛ والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج. والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف، المسيرة للحادث، كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء؛ بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب. فهو وصف حي، يستحضر المشاهد- كما لو كانت تتحرك -ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير.
- وحقيقة خامسة كذلك.. عن واقعية المنهج الإلهي.. فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع، مزاولته بالفعل، فهو لا يقدم مبادئ نظرية، ولا توجيهات مجردة.. ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته. وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة، هو موقفه إزاء مبدأ الشورى..
لقد كان في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها- وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها -نقول كان في استطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستندا إلى رؤياه الصادقة؛ وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة؛ ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد!
ولكنه- وهو يقدر النتائج كلها -أنفذ الشورى. وانفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل. لأن هذا في تقديره صلى الله عليه وسلم وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة. فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية!
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى- بعد المعركة كذلك -تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة. فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية..
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا، وإن حرمانها من مزاولة مبادى ء حياتها الأساسية- كمبدأ الشورى -شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته- مهما بلغت من الجسامة -لا تبرر إلغاءه، بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت، لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف. بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا!
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعال- بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: (فاعف عنهم،واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر).
كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا ترددا وأرجحة. وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته، من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي. فقال قولته التربوية المأثورة: "ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له".. ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: (فإذا عزمت فتوكل على الله).. فتطابق -في المنهج- التوجيه والتنفيذ..
- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله.. وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله..
إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك. ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج، ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة.
وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك، فإنه يصفهم بالخطأ. وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف. ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم -مهما تكن منازلهم وأقدارهم- ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم!
ونتعلم نحن من هذا، أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه -أيا كانوا- وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا، بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم. وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة.. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام، وعلى تاريخ الإسلام؛ إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه:من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ" الإسلام "ليس هو تاريخ" المسلمين "ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان! إن تاريخ" الإسلام "هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام، في تصورات الناس وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم، ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت، تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت. فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام، أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم:إنهم مسلمون؟!
وهذا ما أراد الله -سبحانه- أن يعلمه للأمة المسلمة، وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة، ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها، ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه. وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أُحُد من الحِكم النافعة دُنيا وأخرى، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين} [آل عمران: 166] بيّن هنا أنّ الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم، فقدّر ذلك زماناً كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيّام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدّة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتّى لا يبدأ الانشقاق من أوّل أيّام الهجرة، فلمّا استقرّ الإيمان في النفوس، وقرّ للمؤمنين الخالصين المُقام في أمْن، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيّب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لمَّا رأوا أمر المؤمنين في إقبال، ورأوا انتصارهم يوم بدر، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم، بأن أصاب المؤمنين بقَرح الهزيمة حتّى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين، وسجّل الله عليهم نفاقهم بادياً للعيان...
ومَا صَدْقُ {ما أنتم عليه} هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال.
وحَرْفَا (على) الأوّلُ والثاني، في قوله: {ما أنتم عليه} للاستعلاء المجازي، وهو التمكّن من معنى مجرورها ويتبيّن الوصف المبهم في الصلة بما وردَ بعد (حتَّى) من قوله: {على ما أنتم عليه}، فيعْلم أنّ ما هُم عليه هو عدمُ التمييز بين الخبيث والطيّب.
ومعنى {ما كان الله ليذر المؤمنين} نفي هذا عن أن يكون مراداً لله نفياً مؤكَّداً بلام الجُحود، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب} [آل عمران: 79] إلخ...
فقوله: {على ما أنتم عليه} أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق، فالضمير في قوله: {أنتم عليه} مخاطب به المسلمون كلّهم باعتبار من فيهم من المنافقين.
والمراد بالمؤمنين المؤمنون الخُلَّص من النفاق، ولذلك عبّر عنهم بالمؤمنين، وغيّر الأسلوب لأجل ذلك، فلم يقل: ليذركم على ما أنتم عليه تنبيهاً على أنّ المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين، ولذلك لم يقل على ما هم عليه.
وقوله: {حتى يميز الخبيث من الطيب} غاية للجحود المستفاد من قوله: {ما كان الله ليذر} المفيد أنّ هذا الوَذْر لا تتعلّق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعاً منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيّب، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطّيب صار هذا الوذر ممكناً، فقد تتعلّق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله، ومعناه رجوع إلى حال الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة.
ولحتّى استعمال خاصّ بعد نفي الجحود، فمعناها تنهية الاستحالة: ذلك أنّ الجحود أخصّ من النفي لأنّ أصل وضع الصيغة الدلالة على أنّ ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية، فيكون حصوله كالمستحيل، فإذا غيّاه المتكلّم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود، وليست غاية للنفي حتّى يكون مفهومها أنّه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفياً، وهذا كلّه لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة استعمالها في معنى مطلق النفي، وقد أهمل التنبيه على إشكال الغاية هنا صاحب « الكشاف» ومتابعوه، وتنّبه لها أبو حيّان، فاستشكلها حتّى اضطرّ إلى تأوّل النفي بالإثبات، فجعل التقدير: إنّ الله يخلّص بينكم بالامتحان، حتّى يميز.
وأخذ هذا التأويل من كلام ابنِ عطية، ولا حاجة إليه على أنّه يمكن أن يتأوّل تأويلاً أحسن، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطّلاً لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم، ولكن فيما ذكرته وضوح وتوقيف على استعمال عربيّ رشيق.
و (مِنْ) في قوله: {من الطيب} معناها الفصْل أي فصل أحد الضدين من الآخر، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب « مغني اللبيب»، ومنه قوله تعالى: {واللَّه يعلم المفسد من المصلح} وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى: {واللَّه يعلم المفسد من المصلح} في سورة [البقرة: 220].
وقيل: الخطاب بضمير {ما أنتم} للكفار، أي: لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق.
وقرأ الجمهور: يَميز بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة من ماز يميز، وقرأه حمزة، والكسائي ويعقوب، وخَلَف بضمّ ياء المضارعة وفتح الميم وياء بعدها مشدّدة مكسورة من ميَّز مضاعف ماز.
وقوله: {وما كان الله ليطلعكم} عطف على قوله: {ما كان الله ليذر} يعني أنّه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم، ولم يكن من شأن الله إطلاعكم على الغيب، فلذلك جعل أسباباً من شأنها أن تستفزّ أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلّعوا عليهم، وإنّما قال: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} لأنّه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسّساً على استفادة المسبّبات من أسبابها، والنتائج من مقدّماتها.
وقوله: {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} يجوز أنّه استدراك على ما أفاده قوله: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} حتّى لا يجعله المنافقون حجّة على المؤمنين. في نفي الوحي والرسالة، فيكون المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلاّ ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسرّه الله إليه كقوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحد إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] الآية، فيكون كاستثناء من عموم {ليطلعكم}. ويجوز أنّه استدراك على ما يفيده {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} من انتفاء اطّلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي: إلاّ الغيب الراجع الى إبلاغ الشريعة، وأمّا ما عداه فلم يضمن الله لرسله إطلاعهم عليه بل قد يطلعهم، وقد لا يطلعهم، قال تعالى:
{وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعملهم} [الأنفال: 60].
وقوله: {فآمنوا بالله ورسله} إن كان خطاباً للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاصّ، وهو التصديق بأنّهم لا ينطقون عن الهوى، وبأنّ وعد الله لا يخلف، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان، لأنّ الحالة المتحدّث عنها قد يتوقع منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين، وموقع {وإن تؤمنوا وتتقوا} ظاهر على الوجهين، وإن كان قوله: {فآمنوا} خطاباً للكفار من المنافقين بناء على أنّ الخطاب في قوله: {على ما أنتم عليه} وقوله: {ليطلعكم على الغيب} للكفّار فالأمر بالإيمان ظاهر، ومناسبة تفريعه عمّا تقدّم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتّت.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بيّن سبحانه أن تلك الشدائد التي تنزل بالمؤمنين هي خير لهم ليتبين الطيب من الخبيث، ولذا قال سبحانه: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}.
كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة أحد سببا في أن عرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بين سبحانه أن شان الله تعالى في عباده أن يختبرهم، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره، و"يذر": معناها يترك، وقوله: {على ما انتم عليه}، من اليسر، وعدم التعرض للشدائد، ومعنى {يميز} يفصل، وقرئ (يميِّز) أي يحدد ويبين، والطيب هو الصادق الإيمان، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان.
ومعنى النص الكريم: ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق أن يتركهم في حال من اليسر الذي لا صعوبة معه، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لا مميز يميز من دخل في الإيمان وأشرب قلبه حبه، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من طيب، وتنفصل الأقسام، وتتميز كل جماعة بحقيقتها. وهذا على أن قوله تعالى: {على ما أنتم} من نصر مستمر، لا مشقة فيه ولا ابتلاء، وعلى أن قوله تعالى: {على ما أنتم عليه} بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا، وقد بينه الزمخشري بقوله (لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيكون عيارا على عقائدكم، وشاهدا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله).
وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون؛ لأن الله لا يطلع على غيبه أحدا، وما كان لكم معشر المؤمنين ان تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب.
{وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} الغيب ضد المشاهد، وهو ما غيب عنا مما لا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته، كالعلم بما يكون في المستقبل، وحقيقة الملائكة وذواتهم، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه، و"اجتبى" معناها اختار واصطفى، والمعنى: من شأن الله تعالى أن لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدوا ويجتهدوا، ويعلموا، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، ومع ذلك يصطفى من رسله من يطلعهم على بعض الغيب، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم، وكمكاشفته بالوحي لجبريل الأمين، وهكذا من شئون الغيب، ويستفاد من هذا ان الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب، كما فقال تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو...59} [الأنعام] وان الأنبياء قد يصطفى الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات، فما يعطيهم يعلمونه، وغنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول إني ملك...31} [هود]، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير...188} [الأعراف].
{فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} أي إذا علمتم ان الله تعالى لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين ان تؤمنوا بالله حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث، ليس كمثله شيء، وان تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وان تؤمنوا بالله حق الإيمان، وبالرسل وما جاءوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم اجر عظيم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز:
لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوّة قبل حادثة معركة «أُحد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «أُحد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون»، وكان هذا إِحدى أهم معطيات حادثة «أُحد» ونتائجها الإِيجابية.
والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث هنا عن معركة «أُحد» وأحداثها، تبيّن وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إِذ تقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطّيب) فلابدّ أن تتميز الصفوف، وتتمّ عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس. وهذا قانون عام وسنة إلهية خالدة وشاملة، فليس كلّ من يدعي الإِيمان، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره، وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإِلهية المتتابعة له.
وهنا يمكن أنْ يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحاً بين المسلمين آنذاك أيضاً حسب بعض الأحاديث والرّوايات) وهو: إِذا كان الله عالماً بسريرة كل إِنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس عن طريق العلم بالغيب ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟
إِنّ المقطع الثّاني من الآية وهو قوله: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يجيب على هذا السؤال. أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار، لأن الوقوف على الأسرار على عكس ما يظن كثيرون لا يحلّ مشكلة، ولا يفكّ عقدة، بل سيؤدي إِلى الهرج والمرج والفوضى، وإِلى تمزق العلاقات الاجتماعية وانهيارها، وانطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده، وتوقف الناس عن الحركة والنشاط والفعالية.
والأهم من كلّ ذلك هو أنّه لابدّ أنْ تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، وليس عن أي طريق آخر، ومسألة الاختبار الإِلهي لا تعني سوى هذا الأمر، ولهذا فإِن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم هو أعمالهم فقط.
ثمّ إِنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إِذ يقول: (ولكنّ الله يجتبي مِن رُسله مَن يشاء) أي أنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إِلى ذلك، وتبقى الأعمال مع ذلك كلّه هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم.
ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأنبياء بحسب ذواتهم لا يعرفون شيئاً من الغيب، كما ويستفاد منها أنّ ما يعلمونه منه إِنما هو بتعليم الله لهم وإِطلاعهم على شيء من الغيوب، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب، كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإِلهية.
ومن الواضح والمعلوم أنّ المراد من المشيئة الإِلهية في هذه الآية كغيرها من الآيات هو «الإِرادة المقرونة بالحكمة» أي أنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كلّ من يراه صالحاً لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.
ثمّ أنهّ تعالى يذكرهم في ختام الآية بأن عليهم وهو الآن في بوتقة الحياة، بوتقة الامتحان الكبير، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح، والطيب والخبيث، والمؤمن والمنافق عليهم أنْ يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم، إِذ يقول: (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم).
ثمّ إن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن المؤمن بالطيب، ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه الشّوائب، ولم يدخل في حقيقة الغرائب. ولم تلوثه الكدورات، فالماء الطاهر الطيب، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات، ويستفاد من هذا أن الإِيمان هو فطرة الإِنسان الأصيلة، وهو جبلته الأُولى.