ثم بين - سبحانه - حال لوط - عليه السلام - بعد أن وصل إليه الملائكة لينفذوا قضاء الله - تعالى - فى قومه ، فقال - عز وجل - : { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } .
و " أن " هنا مزيدة لتأكيد المجئ . " وسئ بهم " أى : اعترته المساءة والأحزان بسبب مجيئهم ، لخوفه من اعتداء قومه عليهم .
قال القرطبى : والذرع مصدر ذرع . وأصله أن يذرع البعير بيديه فى سيره ذرعا ، على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق عن ذلك ، وضعف ومد عنقه ، فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع . . وإنما ضاق ذرعه بهم ، لما رأى من جمالهم ، وما يعلمه من فسوق قومه . . . أى : وحين جاءت الملائكة إلى لوط - عليه السلام - ورآهم ، ساءه وأحزنه مجيئهم ، لأنه كان يعرفهم ، ويعرف أن قومه قوم سوء ، فخشى أن يعتدى قومه عليهم . وهو لا يستطيع الدفاع عن هؤلاء الضيوف .
والتعبير بقوله - سبحانه - { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } : تعبير بليغ ، وتصوير بديع لنفاد حيلته ، واغتمام نفسه ، وعجزه عن وجود مخرج للمكره الذى حل به .
و " ذرعا " تمييز محول عن الفاعل ، أى : ضاق بأمرهم ذرعه .
ولاحظ الملائكة - عليهم السلام - على لوط قلقه وخوفه ، فقالوا له على سبيل التبشير وإدخال الطمأنينية على نفسه ، يا لوط : { لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ } أى : لا تخف علينا من قومك ، ولا تحزن لمجيئنا إليك بتلك الصورة المفاجئة .
ثم أفصحوا له عن مهمتهم فقالوا : { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين } .
أى : إنا منجوك وأهلك المؤمنين من العذاب الذى ننزله بقومك ، إلا امرأته فسيدركها العذاب مع قومك ، وستهلك مع الهالكين بسبب تواطئها معهم ، ورضاها بأفعالهم القبيحة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطا من الملائكة سِيءَ بِهِمْ يقول : ساءته الملائكة بمجيئهم إليه ، وذلك أنهم تَضَيفوه ، فساءوه بذلك ، فقوله سِيءَ بِهِمْ : فُعِلَ بهم ، مِنْ ساءه بذلك .
وذُكر عن قتادة أنه كان يقول : ساء ظنه بقومه ، وضاق بضيفه ذَرْعا .
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعمَر عنه وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعا يقول : وضاق ذرعه بضيافتهم لِما علم من خُبث فعل قومه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله ولَمّا أنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعا قال : بالضيافة مخافة عليهم مما يعلم من شرّ قومه .
وقوله : وقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ يقول تعالى ذكره : قالت الرسل للوط : لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ، ولا تحزَن مما أخبرناك من أنّا مهلكوهم ، وذلك أن الرسل قالت له : يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ فَأسْرِ بأهْلِكَ بقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ إنّا مَنَجّوكَ من العذاب الذي هو نازل بقومك وأهْلَكَ يقول : ومنجو أهلِك معك إلاّ امْرأتَكَ فإنها هالكة فيمن يهلك من قومها ، كانت من الباقين الذين طالت أعمارهم .
{ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، و { أن } صلة لتأكيد الفعلين واتصالهما . { وضاق بهم ذرعا } وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له ، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع . { وقالوا } لما رأوا فيه أثر الضجرة . { لا تخف ولا تحزن } على تمكنهم منا . { إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب " لننجينه " " ومنجوك " بالتخفيف ووافقهم أبو بكر وابن كثير في الثاني ، وموضع الكاف الجر على المختار ونصب { أهلك } بإضمار فعل أو بالعطف على محلها باعتبار الأصل .
قد أشعر قوله { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطاً بحلولهم بالقرية ، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه ، فكان هذا المجيء مقدراً حصوله ، فمن ثم جعل شرطاً لحرف { لما } كما تقدم آنفاً في قوله { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } [ العنكبوت : 31 ] .
و { أن } حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد { لما } وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد { لما } ، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم . ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيهاً على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث ، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالماً بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا { لا تخف ولا تحزن } .
ولم تقع { أن } المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلاً لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنياً عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضرباً من الإطناب . وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك .
وبناء فعل { سيء } للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله .
وعطف عليه جملة { وقالوا لا تخف } لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطاً . وقد طويت جمل دل عليها قوله { إنا مُنَجُّوك وأهلك } وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله { وجاءه قومه يهرعون إليه } إلى قوله { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يَصِلُوا إليك } في سورة [ هود : 78 81 ] . وقدّموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلاً بتطمينه .
وعطفُ { ولا تحزن } على { لا تخف } جمع بين تأمينه من ضرّ العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلاً لأن يحزن عليهم ، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به .
وجملة { إنا منجوك } تعليل للنهي عن الأمرين .
واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي ، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له ، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير سورة هود .
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { مُنْجوك } بسكون النون . وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم .