فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ( 84 ) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ( 85 ) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ( 86 ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ( 87 )
والفاء فى قوله { فَقَاتِلْ } للإِفصاح عن جواب شرط مقدر . أى : إذا كان الأمر كما حكى - سبحانه - عن المنافقين وكيدهم . . . فقاتل أنت يا محمد من أجل إعلاء كلمة الله ولا تلتفت إلى أفعالهم وأقوالهم .
وقوله { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أى : قاتل - يا محمد - فى سبيل إعلاء كلمة الله ، والله - تعالى - لا يكلفك إلا فعل نفسك ، فتقدم للجهاد ولا تلتفت إلى تباطؤ المتباطئين ، أو تخذيل المخذلين ، فإن الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف .
وجملة { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } فى محل نصب على الحال من فاعل فقاتل : أى : فقاتل حال كونك غير مكلف إلا نفسك وحدها .
قال صاحب الكشاف : قيل : دعا النبى صلى الله عليه وسلم الناس فى بدر الصغرى إلى الخروج ، وكان أبو سفيان قد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها . فكره بعضهم أن يخرجوا فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا سبعون لم يعولوا على أحد . ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، وقرئ { لاَ تُكَلَّفُ } بالجزم على النهى . ولا نكلف : بالنون وكسر اللام .
وقوله { وَحَرِّضِ المؤمنين } أى : حثهم على القتال ورغبهم فيه ، حتى ينفروا معك خفافا وثقالا من أجل نصرة الحق والدفاع عن المظلومين .
ولقد استجاب النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الأوامر ، وأعد نفسه لقتال أعدائه ، ورغب أتباعه فى ذلك ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم عندما أذن الله له فى القتال " والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتى " أى : حتى أموت .
ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق فى حروب الردة فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله علي وسلم لقاتلتهم على منعها . ولو خالفتنى يمينى لجاهدتهم بشمالى .
ولقد استفاضت أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ترغيب أمته فى الجهاد ، ومن ذلك قوله لأصحابه يوم بدر وهو يسوى الصفوف : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
قال الفخر الرازى : دلت الآية الكريمة على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ، لأنه - تعالى - ما كان يأمره إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات . ولقد اقتدى به أبو بكر - رضى الله عنه - حيث حاول الخروج وحده لقتال ما نعى الزكاة ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل عليه ذلك . ودلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يساعده على القتال لم يجز له التخلف عن الجهاد .
وقوله : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } بشارة للمؤمنين ، ووعد منه - سبحانه - بحسن عاقبتهم وسوء عاقبة الكافرين . و { عَسَى } حرف ترج . وهو هنا يفيد التحقق واليقين ، لأنه صادر عن الله - تعالى - ، الذى لا يخلف وعده . وفى التعبير بها تعليم للمؤمنين الأدب فى القول حتى لا يجزمون بأم يتعلق بالمستقبل ، بل يسددون ويقاربون ويباشرون الأسباب ثم بعد ذلك يتركون النتائج لله - تعالى - والمعنى : قاتل يا محمد فى سبيل الله وحرض المؤمنين على ذك ، عسى الله - تعالى - { أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أى يمنع قتالهم وصولتهم وطغيانهم { والله أَشَدُّ بَأْساً } أى أشد صولة وأعظم سلطانا ، وأقدر بأسا على ما يريده { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أى أشد عقوبة وتعذيبا .
والتنكيل : مصدر من قول القائل نكلت بفلان فأنا أنك به تنكيلا إذا أوجعته عقوبة ، وجعلته عبرة لغيره . وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد ، ثم استعمل فى كل تعذيب بلغ الغاية فى الشدة والألم .
وأفعل التفضيل { وَأَشَدُّ } ليس على بابه ، لأن بأس المشركين لا قيمة له بجانب بأس الله - تعالى - وقوته ونفاذ أمره . وعذابهم لغيرهم من الضعفاء لا وزن له بجانب عذابه - سبحانه - للظالمين ، لأن عذابهم لغيرهم سينتهى مهما طال ، أما عذابه - سبحانه - فلا يمكن التخلص منه ولأن عذابهم لغيرهم سينتهى مهما طال ، أما عذابه - سبحانه - للكافرين الظالمين فهو باق دائم لا ينتهى ولا يزول .
والمقصود من هذا التذييل تهديد الكافرين بسوء المصير وتشجيع المؤمنين على قتالهم ، وبشارتهم النصر عليهم .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } إطماع ، والإِطماع من الله - تعالى - واجب لأن إطماع الكريم إيجاب . .
فإن قال قائل : نحن نرى الكفار فى بأس وشدة ، وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد على الاستمرار والدوام . فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ؛ فقد كف الله بأس المشركين فى بدر الصغرى . وفى الحديبية وفى غزوة الأحزاب حيث ألقى الله - تعالى - فى قلوب الأحزاب الرعب فانصرفوا دون أن ينالوا خيرا { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين .
{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنكِيلاً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فقَاتِلْ في سَبِيلِ الله لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ } : فجاهد يا محمد أعداء الله من أهل الشرك به في سبيل الله ، يعني : في دينه الذي شرعه لك ، وهو الإسلام ، وقاتلهم فيه بنفسك . فأما قوله : { لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ } فإنه يعني : لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوّه وعدوّك ، إلا ما حملك من ذلك دون ما حمل غيرك منه : أي إنك إنما تتبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك ، وإنما عليك ما كلفته دون ما كلفه غيرك . ثم قال له : { وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ } يعني : وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك . { عَسَى اللّهُ أنْ يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول : لعلّ الله أن يكفّ قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته ، وأنكر رسالتك عنك وعنهم ونكايتهم . وقد بينا فيما مضى أن «عسى » من الله واجبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . { واللّهُ أشَدّ بَأْسا وأشَدّ تَنْكِيلاً } يقول : والله أشدّ نكاية في عدوّه من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك ، فلا تنكُلَنّ عن قتالهم ، فإني راصدهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة ، لأوهن كيدهم وأضعف بأسهم وأعلي الحقّ عليهم . والتنكيل مصدر من قول القائل : نكلت بفلان ، فأنا أنكّل به تنكيلاً : أذا أوجعته عقوبة . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وأشَدّ تَنْكِيلاً } : أي عقوبة .
{ فقاتل في سبيل الله } أن تثبطوا وتركوك وحدك . { لا تكلف إلا نفسك } إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم ، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود . روي ( أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت . فخرج صلى الله عليه وسلم وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ) . وقرئ لا { تكلف } بالجزم ، و " لا نكلف " بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك ، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله : { وحرض المؤمنين } على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } يعني قريشا ، وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا . { والله أشد بأسا } من قريش . { وأشد تنكيلا } تعذيبا منهم ، وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه .
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده ، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما ، المعنى - والله أعلم - أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له { قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي »{[4170]} وقول أبي بكر وقت الردة : «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي » ، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله { فقاتل } بما فيه بعد{[4171]} ، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة ، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به ، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم . و { عسى } إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره : إنها واجبة ، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها ، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة ، ثم قوى بعد ذلك ، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله ، وأنه أقدر على الكفرة ، { وأشد تنكيلاً } لهم ، التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم .
تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال ، ومن وصف المثبطين عنه ، والمتذمّرين منه ، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه ، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال ، والتحريضَ عليه ، فتهيّأ الكلام لتفريع الأمر به . ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة ، أي : إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله ، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد ، وما بينهما اعتراض . فالآية أوجبت على الرسول صلى الله عليه وسلم القتال ، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمرَ بالقتال وتحريضهم عليه ، فعبّر عنه بقوله : { لا تكلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين } [ النساء : 84 ] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لِغير المخاطب ، لأنّه إيجاب القتال على الرسول ، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله : { فليقاتل في سبيل الله الذين يَشرون الحياة الدنيا بالآخرة } [ النساء : 74 ] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه . وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين ، ف ( عسى ) هنا مستعارة للوعد . والمراد بهم هنا كفّار مكة ، فالآيات تهيئة لِفتح مكة .
وجملة { والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً } تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد ، والمعنى أنه أشدّ بأساً إذا شاء إظهار ذلك ، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها .