ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يسيرون فى طريق الباطل ، ويتركون طريق الحق فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } .
وقوله { يُشَاقِقِ } من المشاقة بمعنى المعاداة والمخالفة المقصودة . وهى من الشق لأن المخالف كأن يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر .
فقوله { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول } أى : من يخالفه ويعاديه .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } أى يخالفه ويعاديه من بعد ما اتضح له الحق ، وقام لديه الدليل على صحة دين الإِسلام .
وقوله { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } معطوف على يشاقق . أى : وتبع طريقا غير طريق الإِسلام التى سار فيها المؤمنون ، واعتقدوا صحتها وسلامتها من كل سوء . من يفعل ذلك . نوله ما تولى ، أن نجعله - كما يقول الآلوسى والياً لما تولاه من الضلال . أو نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه من الضلال فى الدنيا . أو نكله فى الآخرة إلى ما اتكل عليه فى الدنيا وانتصر به من الأوثان وغيرها .
قال صاحب المنار : والذى أريد توجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله - تعالى - فى عمل الإِنسان . ومقدار ما أعطيه من الإِرادة والاستقلال والعمل بالاختيار . فالوجهة التى يتولاها فى حياته ، والغاية التى يصدها عن عمله ، يوليه الله إياها ويوجهه إليها . أى : يكون بحسب سنته - تعالى - واليا لها وسائر على طريقها . فلا يجد من القدرة الإِلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه . ولو شاء - سبحانه - لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة فى الطاعة كالملائكة ، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه الآن من تفاوت فى الاستعداد والإِدراك وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما وقوله { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وعيد شديد لأولئك المخالفين لطريق الحق . وأصل الصلى : إيقاد النار ولزومها وقت الاستدفاء . يقال صلى بالنار أى : بلى بها . وصليت الشاة : شويتها وهى مصلية .
والمعنى : ومن يخالف طريق الحق نوله ما تولى وندخله فى الآخرة جهنم ليشوى فيها كما تشوى الشاة ، وساءت جهنم مكانا لمن صار إليها ، وحل فيها .
قال ابن كثير : والذى عول عليه الشافعى يرحمه الله - فى الاحتجاج على كون الإِجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروى والفكر الطويل . وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها . وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة على ذلك .
وبهذا نرى أن الآيتين الكريمتين قد بشرتا من يفعل الخير ابتغاء مرضاه الله بالأجر العظيم ، وأنذرتا من يخالف طريق أهل الحق بالعذاب الأليم ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَىَ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ } : ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم معاديا له ، فيفارقه على العداوة له¹ { مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } يعني : من بعد ما تبين له أن رسول الله ، وأن ما جاء به من عند الله يهدى إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم . { وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } يقول : ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق ، ويسلك منهاجا غير منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم . { نُوَلّهِ ما تَوَلىّ } يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ولا تنفعه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { نُوَلّهِ ما تَوَلى } قال : من آلهة الباطل .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . { وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ } يقوله : ونجعله صِلأ نار جهنم ، يعني نحرقه بها ، وقد بينا معنى الصّلَى فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . { وَساءَتْ مَصيرا } يقول : وساءت جهنم مصيرا : موضعا يصير إليه من صار إليه . ونزلت هذه الاَية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } لما أبى التوبة من أبى منهم ، وهو طعمة بن الأبيرق ، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدّا مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه .
{ ومن يشاقق الرسول } يخالفه ، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر . { من بعد ما تبين له الهدى } ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات . { ويتبع غير سبيل المؤمنين } غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل . { نوله ما تولى } نجعله واليا لما تولى من الضلال ، ونخل بينه وبين ما اختاره . { ونصله جهنم } وندخله فيها . وقرئ بفتح النون من صلاة . { وساءت مصيرا } جهنم ، والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما ، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا ، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم ، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.