{ قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وليست هذه الإِعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد ، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى ؛ هو كون بعضهم لبعض عدواً .
ثم قصه ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين ، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين .
والفاء في قوله { فَإِمَّا } لإِفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله : { اهبطوا } .
و { إِمَّا } هي إن الشرطية دخلت عليها " ما " لإفادة التوكيد ، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكداً بالنون وأوجب بعضهم ذلك .
والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول ، أو بآيات كتاب .
وقد صرح - سبحانه - بأن الهدى صادر منه بقوله : { مِّنِّي هُدًى } ثم أضافه إلى نفسه بقوله : { هُدَايَ } للإِيذان بتعظيم أمر الهدى ؛ وأنه أحق بأن يتبع ، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس في الدنيا ، والفوز بالسعادة في الأخرى .
والخوف : الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله .
والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .
ومعنى { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع ، ولا ينتابها ذعر كما أن قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب .
ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإِطلاق ، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم ولا في آخرتهم ، ولكن قوله - تعالى - فيما يقابله من جزاء الكافرين { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يرجح أن يكون المراد نفي الخوف والحزن في الدار الآخرة .
ونفى الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب وفوزهم بالنعيم الخالد في الجنة .
القول في تأويل قوله : { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
وقد ذكرنا القول في تأويل قوله ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) فيما مضى فلا حاجة بنا إلى إعادته ، إذ كان معناه في هذا الموضع هو معناه في ذلك الموضع . وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح في قوله : اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعا قال : آدم ، وحوّاء ، والحية ، وإبليس .
القول في تأويل قوله تعالى : فإمّا يَأْتِيَنّكُمْ مِنّي هُدًى .
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : فإمّا يأتِيَنّكُمْ فإن يأتكم ، و«ما » التي مع «إن » توكيد للكلام ، ولدخولها مع «إن » أدخلت النون المشددة في «يأتينكم » تفرقة بدخولها بين «ما » التي تأتي بمعنى توكيد الكلام التي تسميها أهل العربية صلة وحشوا ، وبين «ما » التي تأتي بمعنى «الذي » ، فتؤذن بدخولها في الفعل ، أن «ما » التي مع «إن » التي بمعنى الجزاء توكيد ، وليست «ما » التي بمعنى «الذي » .
وقد قال بعض نحويي البصريين : إنّ «إما » «إن » زيدت معها «ما » ، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة ، وقد يكون بغير نون . وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته «ما » ، لأن «ما » نفي ، فهي مما ليس بواجب ، وهي الحرف الذي ينفي الواجب ، فحسنت فيه النون ، نحو قولهم : «بعين ما أرينك » حين أدخلت فيها «ما » حسنت النون فيما هنا . وقد أنكر جماعة من أهل العربية دعوى قائلي هذه المقالة أن «ما » التي مع «بعين ما أرينّك » بمعنى الجحد ، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام .
وقال آخرون : بل هو حشو في الكلام ، ومعناها الحذف ، وإنما معنى الكلام : بعين أراك ، وغير جائز أن يجعل مع الاختلاف فيه أصلاً يقاس عليه غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : مِنّي هُدًى فَمَنْ تَبِع هُداي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .
قال أبو جعفر : والهدى في هذا الموضع البيان والرشاد ، كما :
حدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : فإمّا يَأتِيَنكُمْ مِنّي هُدًى قال : الهدى : الأنبياء والرسل والبيان .
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال ، فالخطاب بقوله : اهْبِطُوا وإن كان لاَدم وزوجته ، فيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذرّيتهما . فيكون ذلك حينئذٍ نظير قوله : فَقالَ لَهَا وللأرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين . ونظير قوله في قراءة ابن مسعود : «رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أمةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِهِمْ مَناسِكَهُمْ » فجمع قبل أن تكون ذرية ، وهو في قراءتنا : وأرِنا مَناسِكنَا وكما يقول القائل لاَخر : كأنك قد تزوّجت وولد لك وكثرتم وعززتم . ونحو ذلك من الكلام .
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلى الأرض ، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده ، فغير جائز أن يكون معنيا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : فإما يَأتَيّنَكُمْ مِنّي هُدًى خطابا له ولزوجته : فإما يأتينكم مني هدى أنبياء ورسل إلا على ما وصفت من التأويل .
وقول أبي العالية في ذلك وإن كان وجها من التأويل تحتمله الآية ، فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة أن يكون تأويلها : فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته إلى الأرض من سمائي ، وهو آدم وزوجته وإبليس ، كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها : إما يأتينكم مني بيان من أمري وطاعتي ورشاد إلى سبيلي وديني ، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلاف لأمري وطاعتي . يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب على من تاب إليه من ذنوبه ، والرحيم لمن أناب إليه كما وصف نفسه بقوله : إنه هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ .
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه : اهْبِطُوا مِنْهَا جِمِيعا والذين خوطبوا به هم من سمينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم . وذلك وإن كان خطابا من الله جل ذكره لمن أهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض ، فهو سنة الله في جميع خلقه ، وتعريف منه بذلك للذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله : إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفي قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وأن حكمه فيهم إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله ، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أنهم عنده في الاَخرة ، ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأنهم إن هلكوا على كفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة ، كانوا من أهل النار المخلدين فيها .
وقوله : فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعني فمن اتبع بياني الذي أبينه على ألسن رسلي أو مع رسلي ، كما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعني بياني .
وقوله : فَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله غير خائفين عذابه ، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله ولا هم يحزنون يومئذٍ على ما خالفوا بعد وفاتهم في الدنيا ، كما :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يقول لا خوف عليكم أمامكم ، وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمّنهم منه وسلاّهم عن الدنيا ، فقال : وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } كرر للتأكيد ، أو لاختلاف المقصود فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون ، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف ، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك ، والتنبيه على أن مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى ، فكيف بالمقترن بهما ، ولكنه نسي ولم نجد له عزما ، وأن كل واحد منهما كفى به نكالا لمن أراد أن يذكر . وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى . و{ جميعا } حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك : جاؤوا جميعا { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول ، وما مزيدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب ، والمعنى : إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال ، فمن تبعه منكم نجا وفاز ، وإنما جيء بحرف الشك ، وإتيان الهدى كائن لا محالة لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا ، وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول ، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل ، أي : فمن تبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلا عن أن يحل بهم مكروه ، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه ، فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه . وقرئ هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قلنا اهبطوا منها جميعا}، يعني من الجنة جميعا، آدم، وحواء، وإبليس، فأوحى الله إليهم بعدما هبطوا.
{فإما يأتينكم}: فإن يأتيكم يا ذرية آدم.
{مني هدى}: يعني رسولا وكتابا فيه البيان،...
{فمن تبع هداي}، يعني رسولي وكتابي،
{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... والهدى في هذا الموضع: البيان والرشاد...
عن أبي العالية في قوله: (فإمّا يَأتِيَنكُمْ مِنّي هُدًى) قال: الهدى: الأنبياء والرسل والبيان... فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله:"اهْبِطُوا" وإن كان لاَدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذرّيتهما. فيكون ذلك حينئذٍ نظير قوله: "فَقالَ لَهَا وللأرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ "بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين...ونحو ذلك من الكلام.
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنيا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإما يَأتَيّنَكُمْ مِنّي هُدًى" خطابا له ولزوجته: فإما يأتينكم مني هدى: أنبياء ورسل إلا على ما وصفت من التأويل...
وقول أبي العالية في ذلك وإن كان وجها من التأويل تحتمله الآية، فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته إلى الأرض من سمائي، وهو آدم وزوجته وإبليس، كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها: إما يأتينكم مني بيان من أمري وطاعتي ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلاف لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيم لمن أناب إليه كما وصف نفسه بقوله: "إنه هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ".
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: "اهْبِطُوا مِنْهَا جِمِيعا" والذين خوطبوا به هم من سمينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم.
وذلك وإن كان خطابا من الله جل ذكره لمن أهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنة الله في جميع خلقه، وتعريف منه بذلك للذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله: "إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" وفي قوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" وأن حكمه فيهم إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم عنده في الاَخرة، ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلدين فيها.
"فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ" يعني فمن اتبع بياني الذي أبينه على ألسن رسلي أو مع رسلي...
"فَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ" يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله.
"ولا هم يحزنون" يومئذٍ على ما خالفوا بعد وفاتهم في الدنيا...
قال ابن زيد: "لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ": يقول لا خوف عليكم أمامكم، وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمّنهم منه وسلاّهم عن الدنيا، فقال: "وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... فالاتباع، والاقتداء، والاحتذاء، نظائر، ونقيض الاتباع: الابتداع.
قوله "فلا خوف عليهم "اللغة: فالخوف والجزع، والفزع نظائر ونقيض الخوف: الأمن. تقول: خافه، يخافه خوفا وأخافه إخافة وتخوف تخوفا وخوفه تخويفا وطريق مخوف: يخافه الناس وطريق مخيف: تخيف الناس والتخوف: التنقص يقال: تخوفناهم: تنقصناهم ومنه قوله: "أو يأخذهم على تخوف"، أي على تنقص وأصل الباب: الخوف الذي هو الفزع والخوف كله من الضرر يقال: فلان يخاف الاسد، أي يخاف ضرره ويخاف الله، أي يخاف عقابه.
والحزن، والهم، والغم، نظائر، ونقيضه السرور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت: للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب. وأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً، كان الإيمان به وتوحيده واجباً؛ لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال.
فإن قلت: الخطيئة التي أهبط بها آدم إن كانت كبيرة، فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة، فلم جرى عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء كما فعل بإبليس ونسبته إلى الغيّ والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟ قلت: ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال وأعظم الطاعات. وإنما جرى عليه ما جرى، تعظيماً للخطيئة وتفظيعاً لشأنها وتهويلاً، ليكون ذلك لطفاً له ولذريّته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكماً غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى. وقيل: كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم.
ذكروا [من فوائد] تكرير الأمر بالهبوط... أن التكرير لأجل التأكيد وعندي فيه... أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله: {إني جاعل في الأرض خليفة}...
[ثم بين تعالى] أن من اتبع هداه بحقه علما وعملا بالإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن، وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئا كثيرا من المعاني
لأن قوله: {فإما يأتينكم مني هدى} دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن، وجميع قوله: {فمن تبع هداي} تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف
وجمع قوله: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون}...
فإن قيل قوله: {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقا في الدنيا والآخرة وليس الأمر كذلك لأنهما...
فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي، فخوف التقصير حاصل وأيضا فخوف سوء العاقبة حاصل، قلنا قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا. ولذلك حكي الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل منه...
والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا. والله أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال:
أحدها: لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت.
الثاني: لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال.
الثالث: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون فيما خلفه.
الرابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
الخامس: لا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوات ثواب.
السادس: إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوات محبوب.
السابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها.
الثامن: لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيها.
التاسع: أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف عليهم فيها ولا حزن.
العاشر: ما قاله ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله منه، ثم سلاهم عن الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا.
الحادي عشر: لا خوف حين أطبقت النار، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط، فقيل لأهل الجنة والنار: خلود لا موت.
الثاني عشر: لا خوف ولا حزن على الدوام.
وهذه الأقوال كلها متقاربة، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
... لا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى: {إن هذا عدو لك ولزوجك} [طه: 117] وقال لذريته: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر: 6]. وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع، دون التثنية. وأما الإهباط: فتارة يذكره بلفظ الجمع، وتارة بلفظ التثنية. وتارة بلفظ الإفراد، كقوله في سورة الأعراف: {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [الأعراف: 24] وكذلك في سورة ص، وهذا لإبليس وحده. وحيث ورد بصيغة الجمع، فهو لآدم وزوجه وإبليس، إذ مدار القصة عليهم. وحيث ورد بلفظ التثنية، فإما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية. وإما أن يكون لآدم وإبليس، إذ هما أبوا الثقلين، وأصلا الذرية، فذكر حالهما ومآل أمرهما، ليكون عظة وعبرة لأولادهما. وقد حكيت القولين في ذلك.
والذي يوضح أن الضمير في قوله: {اهبطا منها جميعا} [طه: 123] لآدم وإبليس: أن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم، دون زوجه. فقال: {وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قال اهبطا منها جميعا} [طه: 123. 121] وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم وإبليس الذي زين له المعصية. ودخلت الزوجة تبعا. فإن المقصود إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط، وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة. فعلم أن حكم الزوجة كذلك، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم، وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمهم، فتأمله. وبالجملة: فقوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو} ظاهر في الجمع، فلا يسوغ حمله على الإثنين في قوله: {اهبطا} من غير موجب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أمرهم الله تعالى بالهبوط مرتين، فالأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنة أو الخروج من ذلك الطور وهو أن حالهم تقتضي العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع بها، وعدم الخلود فيها، والثانية بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارها، وهي أن حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصيانا مستمرا شاملا، و لا تكون هدى واجتباء عاما – كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه – وإنما الأمر موكول إلى اجتهاد الإنسان وسعيه، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلمهم طرق الهداية، فمن سلكها فاز وسعد، ومن تنكبها خسر وشقي، وهذا هو السر في إعادة ذكر الهبوط لا أنه أعيد للتأكيد كما زعموا.
قال تعالى {قلنا اهبطوا منها جميعا} أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامة وادخلوا في طور لكم فيه طريقان: هدى وضلال، إيمان وكفران، فلاح وخسران {فإما يأتينكم مني هدى} من رسول مرشد وكتاب مبين {فمن تبع هداي} الذي أشرعه، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدده {فلا خوف عليهم} من وسوسة الشيطان، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران {ولا هم يحزنون} على فوت مطلوب، أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم مما يرضى الله تعالى ويوجب مثوبته، ويفتح للإنسان باب الاعتبار بالحوادث، ويقويه على مصارعة الكوارث، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأفضل تعزية عما فقده.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله: الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقع مكروه يصيبه، أو توقع حرمان من محبوب يتمتع به أو يطلبه، والحزن ألم يلم بالإنسان إذا فقد ما يحب، وقد أعطانا الله جل ثناؤه الطمأنينة التامة في مقابلة ما تحدثه كلمة (اهبطوا) من الخوف من سوء المنقلب. وما تثيره من كوامن الرعب، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات، ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته، يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه، فيكون كالتعب في الكسب، لا يلبث أن يزل بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع.
وإذا قال قائل: إن الدين يقيد حرية الإنسان ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها. ويحزنه الحرمان منها، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان، ويكون باتباعه الفوز وبتركه الخسران؟ فجوابه: إن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذي يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أثر مما يناله بالتلذذ وبإيذائهم، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفي الناس، وتصور ما لها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة، لرجح عنها متمثلا بقول الشاعر:
* لا خير في لذة من بعدها كدر *
فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر، ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة.
(قال الأستاذ) وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه. فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعا حسنا ويتلقى بالصبر كل ما أصابه، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه، فلا يخاف ولا يحزن.
يريد أن رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكم عوادي الطبيعة فيه، وبدون ذلك الرجاء تتحكم فيه أشد مما تتحكم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة {وخلق الإنسان ضعيفا} فالتماس السعادة بحرية البهائم، هو الشقاء اللازم، وقد صرح بلفظ التمتع الحسن أخذا من قوله تعالى {11: 3 وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) الآية.
فالآيات الدالة على أن سعادة الدنيا معلولة للاهتداء بالدين كثيرة جدا، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، يغالطون أنفسهم بحجة القرآن عليهم. وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة، وهي قوله عز وجل {20: 123، 124 قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} الآيات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر. وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... أعيد قوله: {قلنا اهبطوا} فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف {قلنا} لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله: {قلنا اهبطوا منها جميعاً} من قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله: {فإما يأتينكم مني هدى} الآية وهو مغاير لما بنى على قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة {اهبطوا} مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [آل عمران: 188] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ... فالوجه عندي على تقدير أن تكون إعادة {اهبطوا} الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثانٍ لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات. وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفو عنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة، فإن الصبي إذا لوث موضعاً وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من {اهبطوا} الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم...
وهذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين:
{قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون":
جاء التكليف عند نزول الأرض، وقوله: {قلنا} معناه أنه أخرج من الجنة، وقال له تعالى بلسان التكوين: اهبطوا، والهبوط هنا معنوي أو حسي، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه، ولا جهد، بل هو راحة واطمئنان – إلى حيث اللغوب والمشقة، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه، والهبوط المعنوي ظاهر؛ ولذا نقتصر عليه، لأن الحسي غير ظاهر، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون: آدم وزوجه وإبليس، والتكليف على الجميع، فكل ينال أثر عمله.
وقوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي} يدل على أن الله يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة.
وقوله تعالى: {فإما} فيه ما زائدة في الإعراب، وليست زائدة في البيان؛ لأنها دالة على تأكيد الإتيان؛ ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدا وجوبيا عند أكثر علماء البيان، كالقسم لأن إما في معناه، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط، وهنالك تأكيد لجواب القسم – وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه.
وتنكير هدى للتعظيم والتكثير، فهو هدى يهدي إلى الحق، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة، ويهدي إلى النفع الإنساني العام، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها، وإلى الفضيلة الإنسانية، والعدالة في كل نواح الحياة.
وجواب الشرط في قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} هو قوله تعالى: {فمن تبع هداي فلا خوف} أي أن الذين يتبعون ما يجئ به النبيون من رسالات إلاهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته، ولا يعاقبون؛ ولذا قال تعالى: {فلا خوف عليهم}، وهو جواب {فمن تبع} لأنها هي الأخرى شرط، فكان جواب {فإما يأتينكم مني هدى} جملة شرطية، أي فيها شرط وجواب، فقوله تعالى: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} جواب شرط الثانية.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
والأمر بالهبوط يترتب عليه بيان أن الناس مجزيون في الآخرة بحسب أعمالهم في الدنيا، ومن المسلمات عند الجميع أن النفس البشرية مطبوعة على حب الحياة، فإذا ما أوذن الإنسان أن حياته على الأرض محدودة استحكم فيه القلق واستولى عليه الاضطراب إلا إذا علم ما يتبع مرحلة الفناء التي تلي الحياة، واطمأن إلى وجود حياة أخرى، وإذا لم يستبن الإنسان من طريق الوحي فإن القلق والاضطراب لن ينفكا عنه، إذ المصير مبهم، والمستقبل مُعَمَّى لا يمكن اكتناهه بالعقل، ولا بوسائل العلوم التجريبية، وإنما الوحي وحده هو الذي يزيح ستره ويكشف سره، وقد أراد الله أن يرفع عن صدر آدم وزوجه هموم التفكير في هذا المستقبل الغامض فآذنهما بأن هذه الحياة المنصرمة تتبعها حياة سرمدية يلقي فيها كل عامل جزاءه، وفي ذلك طمأنينة لهما بأنهما لن يخسرا الخلود في النعيم إذا ما عملا صالحا وهما يرجوان من الله أن يوفقهما لصالحات العمل بعد تلك الورطة التي أوقعهما فيها الشيطان فكانت لهما درسا لا ينسيانه، كما أن في ذلك تبشيرا لهما بأن كل صالح من ذريتهما سينقلب إلى هذا المنقلب، وسيلقى هذا الجزاء الخالد، فإن كانت الجنة التي أهبطا منها هي جنة الخلد فإنهما سيعودان إليها بتوفيق الله مع عدد لا يحصى من ذريتهما، وإن كانت غيرها سيبدلان بها ما هو خير منها وأبقى...