ثم ختم يوسف - عليه السلام - حديثه مع صاحبيه في السجن ، بأن أوصى الذي سينجوا منهما بوصية حكاها القرآن في قوله : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ } .
أى : " وقال " يوسف - عليه السلام - للفتى الذي اعتقد أنه سينجو منهما وهو ساقى الملك ، أيها الساقى بعد أن تخرج من السجن وتعود إلى عملك عند سيدك الملك ، اذكر حقيقة حالى عنده ، وأنى سجين مظلوم .
ولكن الساقى بعد أن عاد إلى عمله عند الملك ، لم ينفذ الوصية ، لأن الشيطان أنساه ما قاله له يوسف ، فكانت النتيجة أن لبث يوسف - عليه السلام - في السجن مظلوما بعض سنين .
والبضع - بالكسر - من ثلاث إلى تسع ، وهو مأخذو من البضع - بالفتح - بمعنى القطع والشق . يقال : بضعت الشئ أى : قطعته .
وقد اختلفوا في المدة الى قضاها يوسف في السجن على أقوال من أشهرها أنه لبث فيه سبع سنين .
وعلى هذا التفسير يكون الضمير في " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، ويكون المراد بربه أى : سيده ملك مصر .
وهناك من يرى أن الضمير في قوله " فأنساه " يعود إلى يوسف - عليه السلام - وأن المراد بالرب عننا : الخالق - عز وجل - ، وعليه يكون المعنى .
وقال يوسف - عليه السلام - للفتى الذي اعتقد نجاته وهو ساقى الملك : اذكر مظلمتى عند سيدك الملك عندما تعود إليه . واذكر له إحسانى لتفسير الرؤى . .
وقوله { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } أى : فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر حاجته لله وحد ، ولا يذركها للساقى ليبلغها إلى الملك .
فكانت النتيجة أن لبث يوسف في السجن بضع سنين بسبب هذا الاعتماد على المخلوق ؟
والذى يبدو لنا أن التفسير الأول أقرب إلى الصواب ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ .
. . } يدل دلالة واضحة على أن الضمير في قوله " فأنساه " يعود إلى ساقى الملك ، وأن المراد بربه أى سيده .
وقد علق الإِمام الرازى على هذه الآية تعليقا يشعر بترجيحه للرأى الثانى فقال ما ملخصه : " واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذا وإن كان جائزا لعامة الخلق ، إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية ، وألا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب . .
ثم قال والذى جربته من أول عمري إلى آخره أ الإِنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله ، صار ذلك سببا إلى البلاء وإلى المحنة . . وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه ، فهذه التجربة قد استمرت لى من أول عمرى إلى هذا الوقت الذي بعث فيه السابعة والخمسين من عمرى .
ثم قال : واعلم أن الحق هو قول من قال إن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } راجع إلى يوسف . . والمعنى : أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر به وخالقه . .
ونحن مع احترامنا لرأى الفخر الرازى ، إلا أننا ما زلنا نرى أن عودة الضمير في قوله " فأنساه " إلى الساقى الذي ظن يوسف أنه هو الناجى من العقوبة ، أولى لما سبق أن ذكرناه .
قال ابن كثير : وقوله { اذكرني عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ . . . }
أى : " قال يوسف اذكر قصتى عند ربك وهو الملك ، فنسى ذلك الموصى أن يذكر مولاه بذلك ، وكان نسيانه من جملة مكايد الشيطان . . هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : " فأنساه " . . عائد على الناجى كما قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد . .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا بأسلوبها المشوق الحكيم جابنا من حياة يوسف - عليه السلام - في السجن فماذا كان بعد ذلك ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف للذي علم أنه ناج من صاحبيه اللذين استعبراه الرؤيا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ يقول : اذكرني عند سيدك ، وأخبره بمظلمتي وأني محبوس بغير جرم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال ، يعني لنبو : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ : أي اذكر للملك الأعظم مظلمتي وحبسي في غير شيء . قال : أفعل .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ قال للذي نجا من صاحبي السجن ، يوسف يقول : اذكرني عند الملك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أسباط : وَقالَ للّذِي ظَنّ أنّهُ ناجٍ مِنْهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ قال : عند ملك الأرض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ يعني بذلك الملك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَقالَ للّذِي ظَنّ أنّهُ ناجٍ مِنْهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ الذي نجا من صاحبي السجن للملك ، يقول يوسف : اذكرني .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن إبراهيم التّيمي : أنه لما انتهى به إلى باب السجن قال له صاحب له . حاجَتَك أوصني بحاجتك قال : حاجتي أن تذكرني عند ربك . ينوي الربّ ملك يوسف .
وكان قتادة يوجه معنى الظنّ في هذا الموضع إلى الظنّ الذي هو خلاف اليقين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقالَ للّذِي ظَنّ أنّهُ ناجٍ مِنْهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ وإنما عبارة الرؤيا بالظنّ ، فيُحقّ الله ما يشاء ويبطل ما يشاء .
وهذا الذي قاله قتادة من أن عِبارة الرؤيا ظنّ ، فإن ذلك كذلك من غير الأنبياء . فأما الأنبياء فغير جائز منها أن تخبر بخبر عن أمر أنه كائن ثم لا يكون ، أو أنه غير كائن ثم يكون مع شهادتها على حقيقة ما أخبرت عنه أنه كائن أو غير كائن لأن ذلك لو جاز عليها في أخبارها لم يؤمن مثل ذلك في كلّ أخبارها ، وإذا لم يؤمن ذلك في أخبارها سقطت حجتها على من أرسلت إليه . فإذا كان ذلك كذلك كان غير جائز عليها أن تخبر بخبر إلا وهو حقّ وصدق . فمعلوم إذ كان الأمر على ما وصفت أن يوسف لم يقطع الشهادة على ما أخبر الفتيين اللذين استعبراه أنه كائن ، فيقول لأحدهما : أمّا أحَدُكمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْرا وأمّا الاَخَرُ فيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْ رأسِهِ ثم يؤكد ذلك بقوله : قُضِيَ الأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ عند قولهما : لم نر شيئا ، إلا وهو على يقين أن ما أخبرهما بحدوثه وكونه أنه كائن لا محالة لا شكّ فيه ، وليقينه بكون ذلك قال للناجي منهما : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ . فبّينٌ إذن بذلك فساد القول الذي قاله قتادة في معنى قوله : وَقالَ للّذِي ظَنّ أنّهُ ناجٍ مِنْهُما ، وقوله : فَأنْساهُ الشّيْطانُ ذِكْرَ رَبّهِ وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن غفلة عرضت ليوسف من قِبَل الشيطان نسي لها ذكر ربه الذي لو به استغاث لأسرع بما هو فيه خلاصة ، ولكنه زلّ بها ، فأطال من أجلها في السجن حَبسه وأوجع لها عقوبته . كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان الضّبَعِيّ ، عن بِسطام بن مسلم ، عن مالك بن دينار ، قال : لما قال يوسف للساقي : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ قال : قيل : يا يوسف اتخذتَ من دوني وكيلاً ؟ لأطيلنّ حبسك فبكى يوسف وقال : يا ربّ أَنْسَى قلبي كثرةُ البلوى ، فقلت كلمةً ، فويلٌ لإخوتي .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْلا أنّهُ » يعني يوسف «قالَ الكَلِمَةَ التي قالَ ما لَبِثَ فِي السّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ يُوسُفَ لَوْلا كَلِمَتُهُ ما لَبِثَ فِي السّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ » ، يعني قوله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ . قال : ثم يبكي الحسن فيقول : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَقالَ للّذِي ظَنّ أنّهُ ناجٍ مِنْهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْلا كَلِمَةُ يُوسُفَ ما لَبِثَ فِي السّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ » يعني الكلمة التي قال «ما لَبِثَ فِي السّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ » يعني حيث يبتغي الفرج من عند غير الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ لَمْ يَسْتَعِنْ يُوسُفُ على رَبّهِ ما لَبِثَ فِي السّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لَوْلا أنّ يُوسُفَ اسْتَشْفَعَ على رَبّهِ ما لَبِثَ في السّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ ، وَلكِنْ إنّمَا عُوقِبَ باسْتِشْفاعِهِ على رَبّهِ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال له : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ قال : فلم يذكره حتى رأى الملك الرؤيا وذلك أن يوسف أنساه الشيطان ذكر ربه ، وأمره بذكر الملك وابتغاء الفرج من عنده . فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنينَ بقوله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، غير أنه قال : فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنينَ عقوبة لقوله : اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث المثنى ، عن أبي حذيفة .
وكان محمد بن إسحاق يقول : إنما أنسى الشيطان الساقي ذكر أمر يوسف لملكهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما خرج ، يعني الذي ظنّ أنه ناج منهما ، ردّ على ما كان عليه ، ورضي عنه صاحبه . فأنساه الشيطان ذكر ذلك للملك الذي أمره يوسف أن يذكره ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين . يقول جلّ ثناؤه : فلبث يوسف في السجن لقيله للناجي من صاحبي السجن من القيل : اذكرني عند سيدك بضع سنين ، عقوبة له من الله بذلك .
واختلف أهل التأويل في قدر البِضْع الذي لبث يوسف في السجن ، فقال بعضهم : هو سبع سنين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد أبو عَثْمة ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لبث يوسف في السجن سبع سنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ قال : سبع سنين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمران أبو الهذيل الصّنْعاني ، قال : سمعت وهْبا يقول : أصاب أيوب البلاء سبع سنين ، وترك في السجن يوسف سبع سنين ، وعذب بختنصر يجول في السباع سبع سنين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : زعموا أنها ، يعني البضع : سبع سنين ، كما لبث يوسف .
وقال آخرون : البضع : ما بين الثلاث إلى التسع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : سمعت قتادة يقول : البضع : ما بين الثلاث إلى التسع .
حدثنا وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد : بِضْعَ سِنِينَ قال : ما بين الثلاث إلى التسع .
وقال آخرون : بل هو ما دون العشر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : بِضْعَ سنينَ دون العشرة .
وزعم الفرّاء أن البِضْع لا يذكر إلا مع عشر ، ومع العشرين إلى التسعين ، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة . وقال : كذلك رأيت العرب تفعل ولا يقولون بضع ومئة ، ولا بضع وألف ، وإذا كانت للذكران قيل : بضع .
والصواب في البضع من الثلاث إلى التسع إلى العشر ، ولا يكون دون الثلاث ، وكذلك ما زاد على العقد إلى المئة ، وما زاد على المئة فلا يكون فيه بضع .