المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

بدأت السورة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل ما في السماوات والأرض . متبعة ذلك بمقتضيات هذا التسبيح من ملك السماوات والأرض ، والإحاطة بهما ، والتصرف فيهما ، ثم أمت بالإيمان بالله والإنفاق في سبيله ، وبينت اختلاف درجات الإنفاق باختلاف دواعيه ومقتضياته ، ثم عرضت صورة المؤمنين يوم القيامة ، يسعى نورهم أمامهم ومن حولهم ، وصورة المنافقين يلتمسون الانتظار من المؤمنين ، ليقتبسوا من نورهم ، وقد ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب .

وانتقلت بعد ذلك تستحث المؤمنين إلى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق ، وتبصرهم بمنازل المصدقين والمصدقات عند ربهم ، ومآل الكافرين المكذبين في الجحيم ، وتضرب الأمثال لهوان الدنيا وما حوته من متاع ، وعظم الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب ، وتطلب السبق إلى مغفرة الله ، وتطمئن النفوس إلى أن ما يصيب كل نفس من خير أو شر هو في كتاب عند الله ، لتذعن بالتسليم لقضاء الله ، ثم تحدثت عن إرسال الرسل وتتابعهم مؤيدين بالأدلة والكتب وأسباب القوة والعمل ، ليقوم الناس بالقسط ، ثم ختمت الآية بدعوة المؤمنين إلى التقوى ، ووعدهم بمضاعفة الرحمة ، والحظوة بالفضل الذي لا يقدر أحد على شيء منه إلا الله . لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

1- نزه الله تعالى ما في السماوات والأرض من الإنسان والحيوان والجماد ، وهو الغالب الذي يصرِّف الأمور بما تقتضيه الحكمة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الحديد

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة " الحديد " هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، وسميت بذلك لقوله –تعالى- فيها : [ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ] .

وعدد آياتها تسع وعشرون آية في المصحف الكوفي ، وثمان وعشرون في غيره .

2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، فابن كثير والقرطبي يقولان بأنها مدنية ، ولا يذكران خلافا في ذلك .

بينما نرى صاحب الكشاف يقول إنها مكية ، ولا يذكر –أيضا- خلافا في ذلك .

ومن المفسرين من يرى بأن سورة الحديد منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني .

قال الآلوسي : أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ، ولم يسلم له ذلك ، فقد قال قوم إنها مكية .

وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا . لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا . . ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده ، والطبراني وابن مردويه . . عن عمر –رضي الله عنه- أنه دخل على أخته قبل أن يسلم ، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد ، فقرأه حتى بلغ قوله –تعالى- : [ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ] فأسلم( {[1]} ) .

والذي يبدو لنا –بعد تدبرنا لهذه السورة الكريمة- أنها يغلب عليها طابع القرآن المدني ، الذي يتحدث عن الجهاد في سبيل الله ، وعن الإنفاق من أجل إعلاء كلمته ، وعن سوء مصير المنافقين ، وعن إرشاد المؤمنين إلى كيفية إقامة الدولة القوية العادلة . . وهذا لا يمنع من أن يكون من بين آياتها ما هو مكي ، متى ثبت ذلك عن طريق النقل الصحيح .

3- وقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن الله –تعالى- قد نزهه عن كل ما لا يليق به . جميع ما في السموات وما في الأرض ، وأنه –عز وجل- هو مالكها ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن والمحيي والمميت والمميت والخالق لكل شيء ، والعليم بكل شيء .

قال –تعالى- : [ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم . له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ] .

4- ثم حضت السورة الكريمة المؤمنين على الثبات على إيمانهم ، وعلى الإنفاق في سبيل الله ، ووعدتهم على ذلك بأجزل الثواب .

قال –تعالى- : [ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ، وله أجر كريم ] .

5- ثم تتحدث السورة الكريمة بعد ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر ، عن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المنافقين ، فتحكي جانبا مما يدور بين الفريقين من محاورات فتقول : [ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ، فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، ينادونهم ألم نكن معكم ؟ قالوا : بلى ، ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم ، وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور ] .

6- وبعد أن تنتقل السورة الكريمة إلى حث المؤمنين على الخشوع لله ، وعلى تذكر الموت ، وعلى البذل في سبيل الله . . بعد كل ذلك تبين لهم مصير الحياة الدنيا ، وتدعوهم إلى إيثار الآجلة على العاجلة ، والباقية على الفانية فتقول : [ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما ، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ] .

7- ثم تقرر السورة بعد ذلك أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأنه –سبحانه- قد أرسل رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم بنشر العدل بين الناس ، كما أمرهم بإعداد القوة لإرهاب أعداء الحق ، لأن الناس في كل زمان ومكان فيهم المهتدون ، وفيهم الضالون ، كما قال –تعالى- : [ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ] .

8- ثم ختم –سبحانه- السورة بهذا النداء الحكيم للمؤمنين فقال : [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم والله غفور رحيم . لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأن الفضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ] .

9- وبعد ، فهذا عرض مجمل لسورة " الحديد " ومنه نرى أنها زاخرة بالحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- ، وعن صفاته الجليلة . . وعن دعوة المؤمنين إلى التمسك بتعاليم دينهم ، تمسكا يكون مقدما على كل شيء من زينة هذه الحياة الدنيا ، لأن هذا التمسك يجعلهم يعيشون سعداء في دنياهم ، وينالون بسببه الفوز والفلاح في أخراهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

الدوحة – قطر

مساء الأربعاء 16 من رجب سنة 1406 ه 26/3/1986 م .

د . محمد سيد طنطاوي .

افتتحت سورة " الحديد " بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به ، وبالثناء عليه - تعالى - بما هو أهله ، وببيان جانب من صفاته الجليلة ، الدالة على وحدانيته ، وقدرته ، وعزته ، وحكمته ، وعلمه المحيط بكل شىء .

افتتحت بقوله - عز وجل - : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .

وقوله : { سَبَّحَ } من التسبيح ، وأصله الإبعاد عن السوء ، من قولهم سبح فلان فى الماء ، إذا توغل فيه ، وسبح الفرس ، إذا جرى بعيدا وبسرعة .

قالوا : وهذا الفعل { سَبَّحَ } قد يتعدى بنفسه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } وقد يتعدى باللام كما هنا . وهى للتأكيد والتبيين أى : سبح لله لا لغيره .

والمراد بالتسبيح هنا : تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .

والمعنى : نزه الله - تعالى - وعظمه وخضع له ، وانقاد لمشيئته ، جميع ما فى السموات والأرض من كائنات ومخلوقات . . . لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .

وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضى كما فى هذه السورة ، وكما فى سورتى الحشر والصف ، وتارة بصيغة المضارع ، كما فى سورتى الجمعة والتغابن ، وتارة بصيغة الأمر كما فى سورة الأعلى ، وتارة بصيغة المصدر كما فى سورة الإسراء .

جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة ، للإشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله - تعالى - شامل لجميع الأوقات والأحوال .

قال - تعالى - { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } ، والعزيز : هو الغالب على كل شىء ، إذ العزة معناها : الغلية على الغير ، ومنه قوله - تعالى - : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أى : غلبنى فى الخصام .

وفى أمثال - العرب : من عزَّ بزَّ ، أى : من غلب غيره تفوق عليه .

والحكيم مأخوذ من الحكمة ، وهى وضع الأمور فى مواضعها اللائقة بها .

أى : وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يغلبه شىء - الحكيم الذى يضع الأمور فى مواضعها السليمة .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.