المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

30- واذكر - أيها النبي - نعمة الله عليك ، إذ يمكر المشركون للإيقاع بك : إما بأن يحبسوك ، وإما بأن يقتلوك ، وإما بأن يخرجوك . إنهم يدبرون لك التدبير السيئ ، والله تعالى يدبر لك الخروج من شرهم ، وتدبير الله هو الخير وهو الأقوى والغالب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

استمع - أخى القارئ - بتدبر إلى الآيات التي حكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المثر فتقول : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ . . . وَنِعْمَ النصير } .

قال ابن كثير : " عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة - في شأن النبى - صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر ، وأن غيرهم قد آمن به - فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق . وقال بعضهم بل اقتلوه ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك ؟ قال : لا أدرى . فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فرموا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثة ليال " .

وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية ، إلا أننا نكتفى بهذه الرواية ، لإفادتها بالمطلوب في موضوعنا ، ولأن غيرنا قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين ، كما أنكرها ابن كثير نفسه .

وقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ . . } تذكير من الله - تعالى - لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم ، حيث نجى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر المشركين حين تأمروا على قتله وهو بينهم بمكة .

قال ابن جرير : أنزل الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة سورة الأنفال ، يذكره نعمه عليه - ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } الآية .

وقوله { يَمْكُرُ } من المكر ، وهو - كما يقول الراغب - صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله - تعالى - { والله خَيْرُ الماكرين } . ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ . . } وقال - سبحانه - وتعالى - في الأمرين : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وقوله : " ليثبتوك " أي ليحبسوك . يقال أثبته إذا حبسته .

والمعنى : واذكر - يا محمد - وقت ان نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين اظهرهم في مكة ، لكى { لِيُثْبِتُوكَ } أى : يحسبوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن طعوتهم إلى الدين الحق { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة . . { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك .

وقوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السئ ، والله - تعالى - يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليهم عقابا شديداً ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ، ويحفظكم من شرورهم ، فهو - سبحانه - أقوى الماكرين ، وأعظم تأثيرا ، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع .

قال الآلوسى : قوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا فلقوا منهم ما يشب منه الوليد .

{ والله خَيْرُ الماكرين } إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره - سبحانه - وإطلاق هذا المركب الإِضافى عليه - تعالى - إن كان باعتبار أن مكره - سبحانه - أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإِضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير - أيضا نفوذا أو تأثيراً في الجملة . . وإن كان باعتبار أنه - سبحانه - لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا شكرة لمكر الغير فيه ، وتكون الإِضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة . .

هذا والصورة التي يرسمها قوله - تعالى - : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتأمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من ورائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون .

إنها صورة ساخرة ، وهى في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة . . . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شئ محيط ؟

والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .