غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

109

{ بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وقوله { من أسلم } إلى آخره جملة شرطية مستأنفة ، ويجوز أن يكون { من أسلم } فاعلاً لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله { فله أجره } كلاماً معطوفاً على يدخلها { من أسلم } وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهاناً وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى ، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } [ الليل : 20 ] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه . وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً " لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات ، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام

{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ويؤكد ذلك قوله { لله } أي خالصاً له لا يشوبه شرك فلا يكون عابداً مع الله غيره ولا معلقاً رجاءه بغيره ، وزاد التأكيد بقوله { وهو محسن } أي حال كونه محسناً في عمله ، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية ، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات ، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر " من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان التطيب معصية ، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة ، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب .

والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب ، روي أن رجلاً في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس . فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له : إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به . وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته " نويت أن أدرس لله أو أتجر لله " هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ " نويت أن أعشق " وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل ، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** " وللناس فميا يعشقون مذاهب "

فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك ، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات " أكثر أهل الجنة البله " ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .