غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

124

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم } قيل : في الآية تقديم وتأخير لأن قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود . فقوله { وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت : في ترتيب القصة فوائد منها : أنه أجمل القصة في قوله { وإذ ابتلى } إلى { فأتمهن } ثم فسر ، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم ، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إماماً أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضاً ، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمناً لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت . وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها : أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضاً كذلك فقوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } مجمل ، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم . وذكر البيت أولاً وقع مجملاً ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين ، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا . { هذا بلداً آمناً } ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك " ليل نائم " وإنما قيل ههنا بلداً آمناً على التنكير وفي سورة إبراهيم { هذا البلد آمناً } إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلداً فكأنه قال : واجعل هذا الوادي بلداً آمناً ، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلداً فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً بلداً ذا أمن ، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلداً آمناً فيفيد مبالغة زائدة كقولك " هذا اليوم يوم جار " معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله

{ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] ففيه طلب الأمن نفسه قيل : سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل : من الخسف والمسخ ، وقيل : من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكراراً ، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط . ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل . قيل : أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء ؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئاً آخر . { من الثمرات } " من " للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمناً ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سبباً لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين ، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين " نعم المال الصالح للرجل الصالح " واختلف في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم وصار ذلك مؤكداً بدعائه فقيل : نعم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " ولقوله

{ عند بيتك المحرم } [ إبراهيم : 37 ] وقيل : إنما صارت حرماً آمناً بدعوته ، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله : " إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " وقيل بالجمع بينهما ، وذلك أنه كان ممنوعاً قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمناً على ألسنة الرسل . و{ من آمن منهم } بدل من { أهله } يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل : { لا ينال عهدي الظالمين } فعرف الفرق بينهما فقيل { ومن كفر } عطفاً على { من آمن } كما مر في { ومن ذريتي } أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه { فأمتعه } وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل : من استسرعى الذئب فقد ظلم . وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة ، ولأنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد و{ قليلاً } أي إمتاعاً أو تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل ، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت ، والزائل لا يجدي بطائل { أفرأيت إن متعناهم سنين . ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205-207 ] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله

{ يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعا } [ الطور : 13 ] { وسيق الذين كفروا إلى جهنم }

[ الزمر : 71 ] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلاً { وبئس المصير } ذلك الذي اضطر إليه أو ذلك الاضطرار ، فحذف المخصوص للعلم به . والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال : صرت إلى فلان مصيراً وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل " معاش " وكلاهما مستعمل والله أعلم .