غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (125)

124

قوله { وإذ جعلنا البيت } تقرير تكليف آخر . والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس ، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علماً له . ولابد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقى ، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علماً إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه ، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل . وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام . وقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] والمراد - والله أعلم - منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن ، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة ، وعلى الأول يكون معنى { أمناً } موضع أمن كقوله { حرماً آمناً } [ القصص : 57 ] والمثابة المباءة والمرجع قيل : إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة . وقيل : التاء للمبالغة كعلامة . عن الحسن : أي يثوبون إليه في كل عام . وعن ابن عباس ومجاهد : لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }

[ إبراهيم : 37 ] وقيل : مثابة أي يحجون فيثابون عليه . وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله ، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " وقال : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون { حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] لا أن يكون إخباراً عن عدم وقوع القتل فيه أصلاً ، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول . إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل قال صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار " وقد عادت حرمتها كما كانت ، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي : إن الإمام يأمر بالضيق عليه بما يؤدي إلى خروجه ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل ، فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه . وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشئ القتل فيه ، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف . وعند أحمد : لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين ، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام : أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير ، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته . وقيل : تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق { واتخذوا } بفتح الخاء معطوف على { جعلنا } أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة . وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحباباً لا وجوباً . وفي مقام إبراهيم أقوال . فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس : أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه . وعن ابن عباس : أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج . قال القفال : ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها . وعن مجاهد : مقام إبراهيم الحرم كله ، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء . وعن عطاء : مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها ، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى ، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم ، وكان أشد اختصاصاً به ، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال :هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال : لم أؤمر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } و{ من } هذه تجريدية على نحو " رأيت منك أسداً " و " وهب الله لي منك ولياً مشفقاً " ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك المعنى عن غيره . ولا ريب أن للصلاة به فضلاً على غيره من حيث التيمن والتبرك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام ، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلاً أو نهاراً سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله { واتخذوا } والأمر للوجوب ، والرواية عن أبي حنيفة أيضاً مختلفة ، { وعهدنا } المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت { أن } مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهراً والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت ، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى ، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلاً والمراد أقراه على طهارته مثل { ولهم فيها أزواج مطهرة } [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات ، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها . وقيل : عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره . العطف يقتضي مغايرة ، فالطائف من يقصد البيت حاجاً ومعتمراً فيطوف به ، والعاكف من يقيم هناك . ويجاور أو يعتكف ، والركع السجود جمعاً راكع وساجد أي من يصلي هناك ، وعن عطاء ، إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذ كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود . ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال { للطائفين والقائمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي ، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو . ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ، لأنه تعالى مدحهم بذلك . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل . وفي إطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة قالا { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه ، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كافٍ لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد ، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغٍ .