التفسير : وهذا حكم آخر . قوله { كتب عليكم } يقتضي الوجوب كما مر . والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت ، لأنه في ذلك الوقت يكون عاجزاً عن الإيصاء والأكثرون قالوا : المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف . كما يقال لمن قارب البلد : إنه وصل . وعن الأصم : المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا ، وزيف بأنه ترك للظاهر . ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال { وما تنفقوا من خير } [ البقرة : 272 ] { وإنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] { من خير فقير } [ القصص : 24 ] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير ههنا بعد اتفاقهم على أنه المال . فعن الزهري : أنه المال مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً بدليل قوله { من خير فقير } [ القصص : 24 ] { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى { وللنساء نصيبٌ مما ترك الولدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً } [ النساء : 7 ] فكذا الوصية ، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير . والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل " فلان ذو مال " يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليلٍ أو كثير . وكما إذا قيل " فلان في نعمة من الله تعالى " فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومن قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله { إن ترك خيراً } فائدة لندرة من يموت فاقداً أقل ما يتمول . ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا . فمنهم من قال : إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل . فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة ، فيكون التعيين في كل صورة موكولاً إلى الاجتهاد ، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب . ومنهم من قال : إنه مقدر . ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه : أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال : ألا أوصي ؟ قال : لا قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وليس لك كثير مال . وعن عائشة أن رجلاً قال لها : إني أريد أن أوصي . قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة . قالت : قال الله تعالى { إن ترك خيراً } وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل . وعن ابن عباس : أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى . وعن قتادة : ألف درهم . وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم . قال أبو البقاء : جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر :
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول " لك كذا إن فعلت " ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه . وقيل : المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو { عليكم } وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب . والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد . وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد . وقيل : جميع القرابات . وقيل : غير الوارث . وقوله { بالمعروف } أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة . فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفاً ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفاً . { وحقاً } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهباً لهم وسيرة .
واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا . أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال : معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصبائهم ، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية . فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين . ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً في الآية . وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم . فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها . وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا : نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله صلى الله عليه وسلم " أن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه ألا لا وصية لوارث " وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور . ومن أئمة الأمة من قال : هي منسوخة في حق من يرث ، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية . وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب . قالوا : الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث ، إما بآية المواريث أو بقوله " لا وصية لوارث " أو بإجماع الأمة . فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم " ما من حق امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه " وفي رواية " له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين " وفي رواية " ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده " لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب . وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً اختلفوا في موضعين : الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء . وقال الحسن البصري والأغنياء سواء . الثاني : عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له . وعن طاوس : أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.