غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالٖ فِيهِۖ قُلۡ قِتَالٞ فِيهِ كَبِيرٞۚ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْۚ وَمَن يَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتۡ وَهُوَ كَافِرٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (217)

215

الحكم الثاني في قوله سبحانه { يسألونك عن الشهر الحرام } أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بغير الشهر الحرام والمسجد الحرام ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا ؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش - وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير . وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين . فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحداً من أصحابك على السير معك . فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه " بسم الله الرحمان الرحيم . أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش ، لعلك أن تأتينا منه بخبر " فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمع وطاعة . ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه قد نهاني أن أستكره أحداً منكم . حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه . ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة - بين مكة والطائف - فبينما هم كذلك مرت بهم عيرٍ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان . فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقاً أمنوا وقالوا : قوم عمار . فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم . وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب . فتشاور القوم فيهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم . فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين . واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم . واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم . سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن جحش وأصحابه : " ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام " ، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً . فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت { يسألونك عن الشهر الحرام } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام . وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما قتلناهما بهما . فلما قدما فأداهما . فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً وقتله الله ، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية " . وقيل : إن هذا السؤال كان من الكفار ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر . وفي قراءة ابن مسعود { عن قتال فيه } بتكرير العامل . وقرأ عكرمة { قتل فيه قل قتال فيه كبير } أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة . وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفاً بالظرف . فإن قيل : كيف نكّر القتال في قوله تعالى { قل قتال } ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانياً معرفاً مشاراً به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايراً للأول ؟ قلنا : لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش . فلو جيء بالثاني معرفاً لزم أن يكون ذلك من الكبائر ، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فاختير التنكير ليكون تنبيهاً على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه . ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ ؟ عن ابن جريج أنه قال : حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع . وروى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى . وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟ قال : نعم . قال أبو عبيد الله : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول ، يرون الغزو مباحاً في الأشهر الحرم كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم . وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته . قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }

[ التوبة : 5 ] ويمكن أن يقال أن قوله { قتال فيه كبير } نكرة في حين الإثبات فيتناول فرداً واحداً لا كل الأفراد ، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقاً ، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم .

{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة ؟ واعلم أن قوله { وصد } قد مر وجوه إعرابه في الوقوف . أما قوله : { والمسجد الحرام } فقيل : إنه معطوف على الهاء في " به " عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة { تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بالخفض . والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل : إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام . واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد ، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله { وكفر به } وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وكان حق الكلام " ولم يكن أحد كفواً له " . وقيل : والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم . وقيل : الواو في " والمسجد الحرام " للقسم . والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة . وقيل : منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش . وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر . وأجيب بأن معلوم الله كالواقع . والمراد بإخراج أهله ، إخراج المسلمين من مكة . وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل

{ وكانوا أحق بها وأهلها } [ الفتح : 26 ] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال . وأيضاً إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش ، ولم يكن قاطعاً بأنه وقع في الشهر الحرام . وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام { والفتنة } أي الشرك ، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار . { أكبر من القتل } لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل ، فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي . يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة " إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام " { ولا يزالون يقاتلونكم } إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين { حتى يردوكم عن دينكم } كي يرودكم عنه كقولك " أسلمت حتى أدخل الجنة " بمعنى كي أدخل . ويجوز أن يكون بمعنى " إلى " كقوله { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] وقوله { إن استطاعوا } استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به " إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ " { ومن يرتدد } ومن يرجع { منكم عن دينه فيمت وهو كافر } باق على الردة { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً وتبين زوجته منه ويحرم الميراث ، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكماً ، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه ، وكسبّ نبي من الأنبياء . وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحاً بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات . وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب . ويشترط في صحة الردة التكليف ، فلا تصح ردة الصبي والمجنون . وههنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة . فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه ، والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه . لأن من كان مؤمناً ثم ارتد - والعياذ بالله - فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي . فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضاً محال ، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر ، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع . وأيضاً شرط طريان الطارئ زوال السابق . فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور . وبحث فروعي : وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي : لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفاً على الشرط { فيمت وهو كافر } وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقاً { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون }

[ الأنعام : 88 ] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك . وفي الحديث " وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم " سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه . ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال . فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق . إما بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي . وقال المنكرون للإحباط : المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثواباً ، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرة عظيمة ، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتداً بها شرعاً .