التفسير : الحكم الثالث : بيان حرمة الخمر والميسر . قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمان بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون . فنزلت { ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] فقلّ من يشربها . ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب . والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي : كل شراب مسكر فهو خمر . وقال أبو حنيفة : الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب . احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه . والتركيب يدل على الستر والتغطية ، ومنه خمار المرأة . وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً " ، قال الخطابي : إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة . كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها . وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " فمراد الشارع أن كل مسكر فهو خمر لغة أو شرعاً فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة ، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد . وعن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع - وهو شراب يتخذ من العسل - فقال صلى الله عليه وسلم " كل شراب مسكر فهو حرام " وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر . قال : الخطابي : والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء . وأيضاً الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر . وكذا في قول عمر ومعاذ " الخمر مذهبة للعقل " . فإنه يوجب أن كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في علة التحريم . وأيضاً قال تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار . فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر . حجة أبي حنيفة قوله تعالى { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، والنبيذ سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح ، وأيضاً " ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فقال رجل : يا رسول الله ، ألا أسقيك نبيذاً ؟ قال : بلى " . فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب . واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئاً أو مطبوخاً لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " قال الخطابي : الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلاً . وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب . وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال : اشربه ما كان طرياً . قال : إني أطبخه وفي نفسي منه شيء . قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه ؟ قال : لا ، قال : إن النار لا تحل شيئاً وقد حرم . وقال أبو حنيفة : المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر ، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد . يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله " أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحداً " . ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر ، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به ، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين . ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئاً كان أو مطبوخاً ، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر . وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي : أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم . وقيل : الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل : الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه . والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة . ثم إن قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعاً عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما . وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثماً والإثم حرام لقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازماً لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال . وصرح أيضاً بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلاً ، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلباً لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئناناً كما التمس إبراهيم عليه السلام مشاهدة إحياء الموتى طلباً لمزيد الإيقان وركوناً إلى سكون النفس بالعيان .
فإن قيل : لما كان الإثم لازماً لماهية الخمر من حيث هي ، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع ؟ قلت : كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين ! وأيضاً هذا لزوم شرعي ، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولاسيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان . والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما . يقال : يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره . عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله . أو من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير ما كدّ وتعب . وقال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه . فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر . ثم يقال للقامر : ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزئ لحم الجزور . وقال الواحدي : يسر الشيء أي وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح . وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي : إنه كانت لهم عشرة أقداح - وهي الأزلام والأقلام - أساميها : الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد . لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء . وقيل : ثمانية وعشرين . لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد ، وللفذ سهم ، والتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة . يجعلونها في الربابة - وهي خريطة - ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم . قال العلماء : وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم وهاتين الكعبتين المشؤمتين فإنهما من ميسر العجم " وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز . وروي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ . إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان ، وكف اللسان عن الطغيان ، وحفظ الصلاة عن النسيان . فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك . ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف . وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه وسلم " لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر " وذلك لما فيها من التأهب للجهاد ، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه .
{ قل فيهما إثم كبير } أي إنهما من الكبائر . ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو عقال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء . حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً . وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك ؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم ، وقوة النفس عليها أقوى . بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره ، وكفى بقوله
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } [ المائدة : 90 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم " الخمر أم الخبائث " ذماً لها وتقريراً لإثم شاربها . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الخمر عشرة . وقال صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام " " وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل . وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة ، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن : أقومها زقاً يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها .
قال أبقراط : في الخمر عشر منافع . خمس جسمانية وخمس نفسانية . فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه . والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل . ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح . ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن . الحساب الدائم العذاب ، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له .
الحكم الرابع : { ويسألونك ماذا ينفقون } وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية . وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه ؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلاً عن الكفاية . ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسير والتسهيل . ويقال للأرض السهلة : العفو . ومن قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله . وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة . وقال صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف " وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف . فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها ههنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضاً لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف . وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه . { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع . ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى . ويجوز أن يتعلق ب { يبين } أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون .