ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان : أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر لأديان ، فخاطب الجماعة بقوله : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } وأراد هؤلاء بقوله : { يغشى طائفة منكم } والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة . والنعاس فتور في أوائل النوم . وانتصاب { أمنة } على أنها حال متقدمة من { نعاساً } مثل : رأيت راكباً رجلاً ، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة ، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة ، أو على أنه جمع آمن كبارّ وبررة ، أو على أنه مفعول { أنزل } و { نعاساً } بدل منه . قال أبو طلحة : غشانا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلاّ ويميل تحت حجفته . وعن الزبير : كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم . والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : { ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان . وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله . وكان في ذلك النعاس فوائد منها : أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهره جديدة له صلى الله عليه وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم ، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد . ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال ، والنعاس يجدد القوة والنشاط . ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة .
ومنها أن الأعداء كانوا حراصاً متهالكين في قتلهم . فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله وكلاءته معهم . ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس ههنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة . واعلم أن من قرأ { تغشى } بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات ، والنعاس مقصود بالعرض ، ولأنها متبوع وأنه تابع . ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس ، وينصره كونه أقرب ، وكون المبدل منه في حكم النحي ، وموافقته لقوله في قصة بدر { إذ يغشيكم النعاس }[ الأنفال :11 ] ولأن العرب تقول : غشية النعاس ، وقلما يقولون غشية الأمن ، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئاً واحداً كان التذكير أولى . وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، فأخبر عنهم بقوله : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } ما بهم إلا هَمُّ أنفسهم لا همَّ الدين ولا همَّ النبي ولا المسلمين . والهمّ الأمر الشديد . ويقال : أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه . فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعدم الثبات . والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس ، وكانت أسباب الخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا هَمُّ أنفسهم . { يظنون بالله غير الحق } وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به . و { ظن الجاهلية } بدل منه . والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة ، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولاً أنهم يظنون بالله ظناً باطلاً ، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال : فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة . أو { ظن الجاهلية } مصدر و { غير الحق } تأكيد ل { يظنون } كقولك : هذا القول غير ما تقول . و { ظن الجاهلية } كقولك : حاتم الجود ورجل صدق . مما أضيف للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام . أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله . فالجاهلية مصدر كالعالمية والقادرية . قيل : إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والمعاد ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم . وقيل : الظن هو أنهم كانوا يقولون : لو كان محمد نبياً حقاً لم يسلط الله الكفار عليه ، وهذا ظن فاسد . أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه ، وإذا شرف المولى عبده بخلقة لم يجب أن يشرفه بأخرى .
وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية . ولو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس إلى معرفة الحق ، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب . وإنما يعرف كون الإنسان محقاً بالدلائل والبينات ، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم . { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية شهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار . وإنما يحتمل وجوها : أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها . ونظيره ما حكى عنه { لو أطاعونا ما قتلوا }[ آل عمران : 168 ] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر ، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر . أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء ؟ وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء ؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في الجهاد ، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله : { قل إن الأمر كله لله } والحوادث بأسرها مستندة إلى قضائه وقدره . فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك ، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة . { يخفون في أنفسهم } في ضمائرهم أو فيما بينهم { ما لا يبدون لك } وذلك المخفي قولهم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } أي لو كان هذا الدين حقاً لما سلط الله الكفار على من يذب عنه ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } وهي مصارعهم التي قتلوا فيها ، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده . وقيل : معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم ، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة ، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر .
والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب . واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب . أما نسقه فقوله : { وطائفة } مبتدأ و{ أهمتهم } صفته و{ يظنون } خبره . ويحتمل أن يكون خبره محذوفاً أي وثمة ، أو ومنهم طائفة أهمتهم ، و{ يظنون } صفة أخرى ، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين ، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها ، و { يقولون } بدل من { يظنون } أو بيان له . وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلاً من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادراً عن الظن . و{ يخفون } حال من { يقولون } و { قل إن الأمر كله لله } اعتراض بين الحال وذي الحال ، فمن قرأ { كله } بالرفع فلأنه مبتدأ و{ لله } خبره ، والجملة خبر " إن " . ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيداً للأمر و{ لله } خبر " إن " كما لو قلت : إن الأمر أجمع لله . وقوله : { يقولون } استئناف ، وقوله : و { وليبتلي } تقدم ذكره في الوقوف . وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية ، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء ، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظاناً بل شاكاً في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر ، فأزال ذلك الظن بقوله : { قل إن الأمر كله لله } بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء . ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين ، أراد أن يكشف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة ، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم ؟ فقيل { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } وقد مر تفسيره . ويحتمل أن يراد : لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل ههنا ؟ فيكون كالطعن في قوله : { قل إن الأمر كله لله } قال في التفسير الكبير : هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي . فذاك يقول : الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله . وهذا يقول : الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن ، والحذر لا يرد القدر ، والتدبير لا يبطل التقدير . وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق كما في المثل : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات . ثم قال : { والله عليم بذات الصدور } صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء ، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح .