التفسير : هذا حكم من أحكام الجهاد . وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية . يقال : أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئاً من اللحم ليسرقه . والغل الحقد الكامن في الصدر . والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب ، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجر لأنه مستتر بالأشجار . وقال صلى الله عليه وسلم : " من بعثناه على عمل فغل شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " وقال أيضاً : " هدايا الولاة غلول " وقال الجوهري : غل يغل غلولاً أي خان . وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصاً بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة : الغلول في المغنم خاصة ، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر .
عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين " وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال : " لا ألْفَيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك " ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين : ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية ، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة ، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سماوات ، أفلا يكون أميناً في الأرض ؟ هيهات . وقيل : اللام منقولة والتقدير : وما كان نبي ليغل كقوله
{ ما كان لله أن يتخذ من ولد }[ مريم :35 ] أي ما كان الله ليتخذ ولداً . ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان : أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته . وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها : أن المجني عليه كلما كان أجل منصباً كانت الخيانة في حقه أفحش . ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من قبل الوحي فكان مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا . ومنها أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر ، فكانت تلك الخيانة وقتئذٍ أقبح . وثانيهما يخوّن أي ينسب إلى الخيانة فيكون من الإغلال . قال المبرد : تقول العرب : أكفرت الرجل جعلته كافراً أو نسبته إلى الكفرة . قال القتيبي : لو كان هذا هو المراد لقيل " يغلل " كما يقال : " يفسق ويكفر " والأولى أن يقال : هو من أغللته أي وجدته غالاً كما يقال : أبخلته أي وجدته كذلك . ومن هنا قال في الكشاف : معناه راجع إلى القراءة الأولى إذ معناه ما صح له أن يوجد غلا ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً .
وكان ابن عباس ينكر على هذه القراءة ويقول : كيف لا ينسب إلى الخيانة وقد كان يقتل ؟ وقال خصيف : قلت لسعيد بن جبير : ما كان لنبي أن يغل . فقال : بل يغل ويقتل . ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالاً ، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال : إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل { ما كان لنا أن نشرك }[ يوسف :38 ]{ ما كان ليأخذ أخاه }[ يوسف :76 ]{ ما كان لنفس أن تموت }
[ آل : عمران :145 ]{ ما كان الله ليضل قوماً }[ التوبة :115 ]{ وما كان الله ليطلعكم }[ آل عمران :179 ] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال : ليس في الكلام " ما كان لك أن تضرب " بضم التاء . والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس . ويوافق هذه القراءة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت . وعلى هذا يغل بمعنى يخان . وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالاً فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول ، أكثرها يروي أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا : ألا تقسم غنائمنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست منكم درهماً ، أترون أني أغلكم مغنمكم ؟ فنزلت . وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد فنزلت . وقال الكلبي ومقاتل : " نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلباً للغنيمة وقالوا : يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر . فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً فقال صلى الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " . وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوماً ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية . وسمى حرمان بعض الغزاة غلولاً تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر . وقيل : نزلت في أداء الوحي . كان يقرأ القرآن - وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم - فسألوه أن يترك ذلك فقيل : ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة { يوم يحمى عليها في نار جهنم }
[ التوبة :35 ] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : أنزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه . وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال : إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل . قلت : ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية ، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذٍ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده . قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواء يوم القيامة " وقال أبو مسلم : هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته . والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقيل : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة . { ثم توفى كل نفس ما كسبت } إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل : ثم يوفى ما كسب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.