غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

151

ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وجب أن يكون أكمل الناس خلقاً وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } و " ما " مزيدة للتوكيد . أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى . وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال : فبرحمة . وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلاً . وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير : فبأي رحمة . وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى . فلا رحمة بالحقيقة الإله ، ولا رحيم إلا هو ، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضاً كالخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ، أو الثناء ، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الإعراض .

وأيضاً رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها . فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم . ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال : { ولو كنت فظاً } سيء الخلق وأصله فظظ كحذر . فظظت يا رجل بالكسر فظاظة { غليظ القلب } قاسية بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه " فض الختام " . ويقال : لا يفضض الله فاك أي أسنانك . ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام { ولو كنت فظاً غليظ القلب } تشافههم بالملامة على ذلك { لانفضوا من حولك } هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم . وههنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله :{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم }[ التحريم :9 ] وقال في إقامة حد الزنا :{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }[ النور :2 ] ومثله { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }[ المائدة : 54 ]{ أشداء على الكفار رحماء بينهم }

[ الفتح :29 ] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه ، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، ومنه المثل " لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتعقى " . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر . وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله ، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين . فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب . فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء ، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله ، وهذا خلاف نص الآية ، فإذن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره . والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف ، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه ، ويجب عندهم إيصاله إليه فلا يكون برحمة من الله . ثم قال : { فاعف عنهم } فيما يختص بك { واستغفر لهم } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم . قيل : في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل : اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة .

ثم قال : { وشاورهم في الأمر } والمشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها . وقيل : من شرت الدابة شوراً عرضتها على البيع ، أقبلت بها وأدبرت . والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشواراً . يقال : إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار . وتركيبه يدل على الإظهار والكشف ، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء . وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع انه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها : أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم ، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة ، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا . ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده ، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة . ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم . ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " وهذا هو السر في الجماعات والجمعات . ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالاً مما كانوا ، وأن عفوه أعظم من كل ذنب ، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة . ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل : إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى . وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا ؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ { الأمر } ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق ، فهو إذن لمعهود سابق وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد . وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، وأشار عليه السعدان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة .

ومنهم من قال : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي ، وكيف لا وإنه كان مأموراً بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }[ الحشر :2 ] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة . وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين ، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجوب . وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال : وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييباً لنفسها فكذا ههنا . { فإذا عزمت } أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فتوكل على الله } لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن . عن جابر بن زيد أنه قرأ { فإذا عزمت } بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحداً .

/خ160