ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وجب أن يكون أكمل الناس خلقاً وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } و " ما " مزيدة للتوكيد . أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى . وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال : فبرحمة . وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلاً . وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير : فبأي رحمة . وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى . فلا رحمة بالحقيقة الإله ، ولا رحيم إلا هو ، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضاً كالخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ، أو الثناء ، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الإعراض .
وأيضاً رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها . فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم . ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال : { ولو كنت فظاً } سيء الخلق وأصله فظظ كحذر . فظظت يا رجل بالكسر فظاظة { غليظ القلب } قاسية بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه " فض الختام " . ويقال : لا يفضض الله فاك أي أسنانك . ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام { ولو كنت فظاً غليظ القلب } تشافههم بالملامة على ذلك { لانفضوا من حولك } هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم . وههنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله :{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم }[ التحريم :9 ] وقال في إقامة حد الزنا :{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }[ النور :2 ] ومثله { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }[ المائدة : 54 ]{ أشداء على الكفار رحماء بينهم }
[ الفتح :29 ] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه ، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، ومنه المثل " لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتعقى " . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر . وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله ، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين . فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب . فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء ، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله ، وهذا خلاف نص الآية ، فإذن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره . والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف ، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه ، ويجب عندهم إيصاله إليه فلا يكون برحمة من الله . ثم قال : { فاعف عنهم } فيما يختص بك { واستغفر لهم } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم . قيل : في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل : اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة .
ثم قال : { وشاورهم في الأمر } والمشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها . وقيل : من شرت الدابة شوراً عرضتها على البيع ، أقبلت بها وأدبرت . والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشواراً . يقال : إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار . وتركيبه يدل على الإظهار والكشف ، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء . وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع انه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها : أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم ، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة ، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا . ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده ، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة . ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم . ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم " وهذا هو السر في الجماعات والجمعات . ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالاً مما كانوا ، وأن عفوه أعظم من كل ذنب ، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة . ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل : إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى . وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا ؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ { الأمر } ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق ، فهو إذن لمعهود سابق وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد . وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، وأشار عليه السعدان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة .
ومنهم من قال : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي ، وكيف لا وإنه كان مأموراً بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }[ الحشر :2 ] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة . وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين ، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجوب . وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال : وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييباً لنفسها فكذا ههنا . { فإذا عزمت } أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فتوكل على الله } لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن . عن جابر بن زيد أنه قرأ { فإذا عزمت } بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحداً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.