غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

92

ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } يقال : قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى . ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلاّ أنه ليس صريحاً في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها . والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين ، ويبقى المغرب والصبح بحالهما ، وعن ابن عباس : فرض الله صلاة الحضر أربعاً ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم . وعنه أيضاً أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيماء مقام الركوع والسجود .

ويؤكد هذا الرأي بقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما ، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما . حجة الجمهور ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } ؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده حديث ذي اليدين : " أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ " وأيضاً القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك ، فجمل الكلام على ما لا يلزم من التكرار أولى . أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر ، على أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة .

ثم إن الشافعي قال : القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله : { لا جناح عليكم } مشعر بعدم الوجوب ، ولما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت : " اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي وأمي قصرت . وأتممت وصمت وأفطرت . فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ " . وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه . وقال أبو حنيفة : القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلى ركعتين ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : " فاقبلوا صدقته " وظاهر الأمر للوجوب .

وعن عائشة : أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر . قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما تصنع بقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا } قلت : كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه . وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر ، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر . وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسداً لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل .

وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعاً لا على أن الإتمام غير جائز ، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر . ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص ، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام ، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر . وقال أنس بن مالك : المعتبر خمسة فراسخ . وقال الحسن : مسيرة ليلتين . وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام . وهو قول أبي حنيفة قياساً على مدة جواز المسح للمسافر ، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان " .

والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل أثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة . قالت الفقهاء : فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر . وقال أهل الظاهر : اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن .

{ إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } يريد أن العداوة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم .

/خ101