غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الأنعام وهي مائة وخمس وستون آية وهي مكية إلا ثلاث آيات { قل تعالوا } إلى قوله { ثم آتينا موسى الكتاب } .

1

التفسير : عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت ، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملئوا ما بين الأخشبين » فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعدها أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه » ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل .

واعلم أن قوله { الحمد لله } مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة ، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة :1 ] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة . أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق ، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه . والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله . فلا ينبغي أن يمدح إلا هو ، ولا أن يثنى إلا عليه ، ولا أن يشكر ويحمد إلا له .

ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف .

أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها

وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم ، فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي . قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق لأرض مقدم على خلق السماء . وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله { ومن الأرض مثلهن } [ الطلاق : 12 ] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله . وأيضاً إن لحركة كل فلك أوّلاً لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال . وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلاً فاختصاص ابتداء حدوثة بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية . وأيضاً إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء . هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي - الآباء - في العنصريات - وهي الأمهات - لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضاً إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات . أما قوله { وجعل الظلمات والنور } فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى «صير » اقتضى مفعولين . وإنما لم يقل «وخلق » لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله { وجعل منها زوجها } [ النساء : 1 ] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر . وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة . ووحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض . وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلاً وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس . وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى . وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق على وجودها ، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور . وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره . وقوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معطوف على قوله : { الحمد لله } والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم ، أو على { خلق السموات } معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك . فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول ، وعلى الثاني هو من العدل . ومعنى «ثم » هاهنا وفي قوله { ثم أنتم تمترون } تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر .

/خ11