ثم أشار تعالى إلى ما يؤكد التبرئة من شاهد العرف والعادة ، في أنه لا يضم الشكل إلى شكله ، ولا يساق الأهل إلى أهله ، بقوله سبحانه :
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
{ الْخَبِيثَاتُ } أي من النساء { لِلْخَبِيثِينَ } أي من الرجال { وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } أي بحيث لا يكاد يتجاوز كل واحد إلى غيره . و( الطيب ) ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود . قال أبو السعود : وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة . واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى { أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة . وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك .
وعلم أن ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب ، لا تفي بها مجلدات . إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك ، نقتبسه من أهم المراجع ، تتميما لما أجملناه في تأويلها .
فالأول : أن نبأ الإفك كان في غزوة المريسيع ( تصغير مرسوع ، بئر أو ماء لخزاعة ) وكانت في شعبان سنة خمس . وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار ، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه . وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها ، فأغار عليهم . فسبى ذراريهم وأموالهم . وكانت عائشة رضي الله عنها قد خرجت معه ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الغزوة ، بقرعة أصابتها . وكانت تلك عادته مع نسائه . فلما رجعوا من الغزوة ، نزلوا في بعض المنازل . فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه . فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها . فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها . وأيضا ، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج ، لم ينكروا خفته . ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال . فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد ، فإذا ليس لها داع ولا مجيب . فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها . والله غالب على أمره ، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل ( بفتح الطاء المشددة سلمي ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام ) : إنا لله وإنا إليه راجعون . زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في ( صحيح أبي حاتم ) وفي ( السنن ) . فلما رآها عرفها . كان يراها قبل نزول الحجاب . فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها . فركبتها . وما كلمها كلمة واحدة . ولم تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به . ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا . فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه . فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه . وكان أصحابه يتقربون إليه . فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم . ثم استشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها ، تلويحا لا تصريحا . وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فعلي ، لما رأى ما قيل مشكوك فيه ، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء . وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها ، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها . ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه ؛ أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته ، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله . ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه – قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة ، لما سمعوا ذلك : { سبحانك هذا بهتان عظيم } وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام ، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه ، امرأة خبيثة بغيا . فمن ظن به سبحانه هذا الظن ، فقد ظن به السوء . وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله ، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها . كما قال تعالى : { الخبيثات للخبيثين } لا يشكون فيه ، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .
فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به . وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما قاله فضلاء الصحابة ؟ فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها ، وامتحانا وبلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة . ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها . لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدرها وقضاها ، ويظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده . ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا . ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبيها . وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها ، والافتقار إلى الله ، والذل له ، وحسن الظن به ، والرجاء له . ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق . ولهذا وفت لهذا المقام حقه ، لما قال لها أبوها : ( قومي إليه ، وقد أنزل الله عليها براءتها ، فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ) .
وأيضا ، فكان من حكمة حبس الوحي شهرا ، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف ، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها . وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع . فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق وأهله وأصحابه ، والمؤمنون . فورد عليهم ورود الغيث على الأرض ، أحوج ما كانت إليه . فوقع منهم أعظم موقع وألطفه . وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء ، . فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة ، وأنزل الوحي على الفور بذلك ، لفاتت هذه الحكم وأضعافها ، بل أضعاف أضعافها .
وأيضا ، فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم ، وكرامتهم عليه . وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه ، والرد على أعدائه ، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه ، بل يكون هو وحده المتولي ، لذلك ، الثائر لرسوله وأهل بيته .
وأيضا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى . والتي رميت زوجته . فلم يكن يليق أن يشهد براءتها . مع علمه ، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءا قط ، وحاشاه وحاشاها . ولذلك لما استعذر من أهل الإفك . قال : ( من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ والله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا . وما كان يدخل على أهلي إلا معي ) . فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين . ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه ، وثقته به ، وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه . حتى جاءه الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين . ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي ، مع أنه رأس الإفك . فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة . والخبيث ليس أهلا لذلك . وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة . فيكفيه ذلك عن الحد . وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة . وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد . فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه . ولم يكن يذكره بين المؤمنين وقيل : حد القذف حق الآدمي ، لا يستوفى إلا بمطالبته . وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي . وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته . كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا . وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام . فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم . فلم يؤمن إثارة فتنة في حده ولعله ترك لهذه الوجوه كلها . فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش . وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ، تطهيرا لهم وتكفيرا . وترك عدو الله ابن أبي إذا فليس هو من أهل ذاك – هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في ( زاد المعاد ) وهو خلاصة الروايات في هذا الباب .
ثم قال رحمه الله : ومن تأمل قول الصديقة ، وقد نزلت براءتها ، فقال لها أبوها : ( قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ) – علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها ، وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجديدها التوحيد ، وقوة جأشها وإذلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له . ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، قالت ما قالت . إذلالا للحبيب على حبيبه ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإذلال ، فوضعته موضعه . والله ! ما كان أحبها إليه حين قالت : ( لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي والله ! ) ذلك الثبات والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه . وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا . ثم صادفت الرضاء منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه وقربه ، مع شدة محبتها له . وهذا غاية الثبات والقوة انتهى .
وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر . ورواه من التابعين عشرة كما في ( فتح الباري ) وذلك في ( المسانيد ) و( الصحاح ) و( السنن ) وغيرها . ما بين مطول وموجز . ومن الثاني ما أخرجه الإمام {[5676]} أحمد عن أم رومان قالت : ( بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث . قالت : وأي حديث ؟ قالت : كذا كذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قالت : وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم . فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها . فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها . قالت : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال : فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به ؟ قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني . فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال {[5677]} : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } .
قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عذرها . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر . فدخل فقال : يا عائشة ! إن الله تعالى قد أنزل عذرك . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله ؟ قالت : نعم .
قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر . فحلف ألا يصله . فأنزل الله تعالى {[5678]} : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } إلى آخر الآية . فقال أبو بكر : بلى ، فوصله ) . تفرد به البخاري {[5679]} .
المطلب الثاني : قال في ( الإكليل ) في قوله تعالى {[5680]} : { إن الذين جاءوا بالإفك } نزلت في براءة عائشة مما قذفت به . فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء : قذف عائشة كفر . لأن الله سبح نفسه عن ذكره . فقال {[5681]} : { سبحانك هذا بهتان عظيم } كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . وفي قوله تعالى {[5682]} : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } . تحريم ظن السوء ، وأنه لا يحكم بالظن . وأن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر . وأن القاذف مكذب شرعا ، ما لم يأت بالشهداء . وفي قوله تعالى {[5683]} : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } الآية ، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه . أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، قال : ( من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) ، وأخرج عن عطاء قال : ( من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقا ) .
وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل يتكلم عنده في الرجل ، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه .
وفي قوله تعالى {[5684]} : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } الآية ، النهي عن الحلف ألا يفعل خيرا . وأن من حلف عن يمين فرأى غيرها خيرا منها ، يستحب له الحنث . وفيه الأمر بالعفو والصفح .
واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى {[5685]} : { إن الذين يرمون المحصنات } الآية ، نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، يقتل قاذفهن ، إذا لم يذكر له توبة ، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة . انتهى .
وقال ابن كثير : ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها . والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات . ويدخل فيهن أم المؤمنين دخولا أوليا ، لاسيما من كانت سبب نزولها ، وهي عائشة .
قال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة ، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي . والله أعلم .
الثالث : قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى {[5686]} : { الخبيثات للخبيثين } الآية : أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين . فلا تكون خبيثة لطيب . فإنه خلاف الحصر . وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة . فإنه خلاف الحصر . إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين . فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة . وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين . فلا يبقى طيبة لخبيث . فجاء الحصر من الجانبين ، موافقا لقوله {[5687]} : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } الآية . ولهذا قال من قال من السلف ( ما بغت امرأة نبي قط ) فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك . ولهذا لما صارت شبهة ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم في طلاقها . إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة . وقد روي {[5688]} أنه ( لا يدخل الجنة ديوث ) وهو الذي يقر السوء في أهله . ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها . حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم {[5689]} : ( أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني ) . من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجا ، أن يلاعن ، لأجل ما أمر به من الغيرة ، ولأنها أفسدت فراشه ، وإن حبلت من الزنى ، فعليه اللعان ، لئلا يلحق به من ليس منه . ومضت السنة بالتفريق بينهما ، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج . لأن أحدهما ملعون أو خبيث . فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطيب . وفي ( صحيح مسلم ) من {[5690]} حديث عمران في الناقة التي لعنتها المرأة ، أنه أمر فأخذ ما عليها وأرسلت . وقال : ( لا تصحبنا ناقة ملعونة ) . ولما اجتاز بديار ثمود قال {[5691]} : ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . لئلا يصيبكم ما أصابهم ) . فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب . وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي . لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل ، وأقل ذلك أن يكون منكرا لظلمهم ، ماقتا لهم شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان . كما في قوله {[5692]} : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ) . إلخ . وقال تعالى {[5693]} : { وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون } الآية . وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار . وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين : أحدهما . أن يكون مكرها عليها . والثاني أن يكون في ذلك مصلحة دينية ، راجحة على مفسدة المقارنة . أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه . فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة . وفي الحقيقة : المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما . وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى {[5694]} : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وقال تعالى {[5695]} : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الآية وقال تعالى {[5696]} : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } إلى قوله : { غفورا } وقال {[5697]} : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الآية . فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني ، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة . والمناكحة في أصل اللغة المجامعة . فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما ، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك . حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة ، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك . وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد ، وهو المعاشرة المقررة للصداق ، كما أفتى به الخلفاء . وآخر ذلك اجتماع المباضعة . وهذا . وإن اجتمع بدون عقد نكاح ، فهو اجتماع ضعيف ، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى : { الطيبات للطيبين } على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ . ودل أيضا على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم . كما دل على هذا غير ذلك من النصوص . مثل قوله تعالى {[5698]} : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أي نظراءهم وأشباههم . والزواج أعم من النكاح المعروف . قال {[5699]} تعالى : { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } وقال {[5700]} : { من كل زوج بهيج } وقال {[5701]} : { وإذا النفوس زوجت } وقال {[5702]} : { ومن كل شيء خلقنا زوجين } وقال {[5703]} : { وخلقناكم أزواجا } وقال {[5704]} : { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } وإن كان في الآية نص في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها . فمعنى ذلك : في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع {[5705]} : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } الآية {[5706]} : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } الآيتين . فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله . ويدل عليه الحديث {[5707]} الذي في ( السنن ) ( لا تصاحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي ) وفيها {[5708]} ( المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل ) وفي ( الصحيحين ) {[5709]} من حديث أبي هريرة ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ) إلى قوله ( ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير ) والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله . قال أحمد : إن لم يبعها كان تاركا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم . والإماء اللاتي يفعلن هذا ، يكون عامتهن للخدمة . فكيف بأمة التمتع ؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه ، فكيف بالزوجة الزانية ؟ والعبد نظير الأمة ، بدليل قوله {[5710]}صلى الله عليه وسلم ( لعن الله من آوى محدثا ) فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثا . سواء كان إحداثه بالزنى أو بالسرقة ، أو غير ذلك . وسواء كان الإيواء بملك اليمين ، أو نكاح ، أو غير ذلك . لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر . والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه ، بالنكاح وغيره . قال تعالى {[5711]} : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } وكذلك المرأة التي زنى بها الرجل ، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح . كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار . لكن إذا أراد أن يمتحنها ، هل هي صحيحة التوبة ؟ فقال ابن عمر : ( يراودها فإن أجابته لم تصح توبتها وإن لم تجبه فقد تابت ) . ونص عليه أحمد وقيل : هذا فيه طلب الفاحشة . وقد تنقض التوبة . وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك . ويزين لهما الشيطان ، لاسيما إن كان يحبها وتحبه ، وقد ذاقته وذاقها . ومن قال بالأول قال : الأمر الذي يقصد به امتحانها ، لا يكون أمرا بما نهى الله عنه . ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرض . والتعريض للحاجة جائز . بل واجب في مواضع كثيرة . وأما نقضها ، فإذا جاز أن تنقض التوبة معه ، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها وأما تزيين الشيطان له الفعل ، فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة . فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحدا ، وقد ذكر عنه الفجور ، وقيل إنه تاب ، أو كان ذلك مقولا صدقا أو كذبا ، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره ، وكذلك إذا أراد أن يولي أحدا ولاية ، امتحنه . كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى ، لما أعجبه سمته . فقال له : قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين . فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك ؟ فبذل له مالا عظيما . فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية . وكذلك في المعاملات . وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا ، أو قيل عنهم الفجور ، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه . ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس ، وتارة بالجرح والتعديل ، وتارة بالاختبار والامتحان .
ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظم الله الفاحشة ، عظم ذكرها بالباطل – وهو القذف . فقال {[5712]} بعد ذلك { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف : وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله {[5713]} : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة والقول بالأفواه ، وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه {[5714]} : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله {[5715]} : { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } وقوله صلى الله عليه وسلم {[5716]} ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) وقوله {[5717]} : { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به . وفي ( الصحيح ) قوله {[5718]} لعائشة ( ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا ) ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك . لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم . لقوله تعالى {[5719]} : { ولا تقف ما ليس لك به علم } والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين جلدة ، والرمي بغيرها في الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال علي : ( لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري ) . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : ( إذا شرب هذى ، وإذا هذى افترى . وحد الشرب ثمانون ، وحد المفتري ثمانون ) . وقوله تعالى {[5720]} : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون بالقلب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسدا أو بغضا ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها . وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنه مثل الأمر بها ، فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ؛ مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة . ومن ذلك قوله تعالى {[5721]} : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية . فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم – فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين . وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى {[5722]} : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة } إلخ في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذ كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله {[5723]} : { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } إلى قوله {[5724]} : { فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم } وما ذكر بعده من قول يوسف {[5725]} : { ما بال النسوة التي قطعن أيديهن } الآية ، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى .
وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى {[5726]} : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } الآية . ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة . حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته في سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى {[5727]} : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال {[5728]} : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا } الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، وببغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصد عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك . فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله {[5729]} : { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقوله {[5730]} : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقوله {[5731]} : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } وما بعدها ، وقوله {[5732]} : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية ، وقوله {[5733]} : { مستكبرين به سامرا تهجرون } وقوله {[5734]} : { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وقوله {[5735]} : { وإن تطع أكثر من في الأرض } ، الآية ومثل هذا كثير في القرآن . فأهل المعاصي كثير في العالم ، بل هم أكثر ، كما قال تعالى {[5736]}{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } الآية . وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما يعلمه إلا الله . وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى {[5737]} : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } الآية ثم قال {[5738]} : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } الآية ، وقوله تعالى {[5739]} : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } ، ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته . فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته . فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه . وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر ، فإن حب الشيء وفعله ، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما ، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر . فإن ذلك مسبوق بعلمه ، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ، ولا فعل ولا ترك لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علما مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا . ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها . فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة ، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها . بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها . وكل منهما معصية . فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية . وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملا . فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره . وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك ، وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها ، وإلى دفع أهوائهم . وذلك يحتاج إلى جازمة وقدرة على ذلك . ولا يكون ذلك إلا بالصبر ، كما قال تعالى {[5740]} : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها . وبيان ما فيها من الفساد . فإن الإنكار بالقلب واللسان ، قبل الإنكار باليد . وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة ، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه ، نحو قوله تعالى {[5741]} : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا } الآيات . وهذا كثير جدا . فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم . إما كافر وإما فاجر . وليس منهم من هو بعكسه . لكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك . وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته ، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله ، وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه ، وهو أدنى الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم {[5742]} : ( من رأى منكم منكرا ) إلى قوله ( وذلك أضعف الإيمان ) وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته . وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه . ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وذلك أضعف الإيمان ) فيمن رأى المنكر . فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر ، ولم يكرهه ، لم يكن هذا الإيمان موجودا في القلب في حال وجوده ورؤيته ، بحيث يجب بغضه وكراهته . والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا . وإذا لم يكن المنكر موجودا لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده ، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات ، قد يعرض عنها كثير من الناس ، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين . وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات ، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران : بغض الكفر وأهله ، وبغض الفجور وأهله ، وبغض نهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ، ولا يحب أن يأمر به ، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال . وقد قال تعالى {[5743]} : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون } وقال تعالى {[5744]} : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } الآية ، قال {[5745]} : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية ، وكثير من الناس ، بل أكثرهم ، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات ، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات . فربما مالوا إليها تارة ، وعنها أخرى . فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات ، وصارت نفسه مطمئنة ، تاركا للمنكرات والمكروهات ، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك ، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال . فإن هذا شيء آخر داخل في قوله {[5746]} : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } إلى قوله {[5747]} : { وكان الله على كل شيء مقيتا } والشفاعة : الإعانة . إذ المعين قد صار شفيعا للمعان . فكل من أعان على بر أو تقوى كان له نصيب منه . ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه . وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم ، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان . ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين . كما قال تعالى قبل ذلك {[5748]} : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } إلى قوله {[5749]} : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } ومن هاهنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره . والفرق بين المؤمن البر وبين الكافر الفاجر . فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم ، كرؤية الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله ، والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى {[5750]} : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } الآية ، وقال {[5751]} : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } وقال {[5752]} : { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } وقال {[5753]} : { فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم } وقال تعالى {[5754]} في حق المؤمنين { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا } وقال في حق الكفار {[5755]} : { فما لهم عن التذكرة معرضين } والآيات في هذا كثيرة جدا . وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة . قال تعالى {[5756]} : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } وفي آخر الحجر . وقوله {[5757]} : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } الآية ، وقال {[5758]} : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } الآية ، وقال {[5759]} : { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } الآية ، وقال {[5760]} : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } الآيات ، وقال {[5761]} : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } . الآية وقال {[5762]} : { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } الآية . وكذلك قال الشيطان {[5763]} : { إني أرى ما لا ترون } وقال {[5764]} : { فلما تراءى الجمعان } الآيات . وقال {[5765]} : { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } الآيات . فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها ، منهي عنه . والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به . وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لدفع شر أولئك ، فمأمور به . وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة . فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظرا مأمورا به ، إما للإعتبار وإما لبغض ذلك . والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه . وكذلك الموالاة والمعاداة . وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه ، وهو يظن أنه نظرة عبرة وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة ، كالذين قال الله فيهم {[5766]} : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال : ( إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم ) . فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول . وأما ما يكون من الفعل بالجوارح ، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، داخل في هذا . بل يكون عذابه أشد . فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة . وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل . فكيف إذا اقترن ؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا . ومن رضي عمل قوم حشر معهم . كما حشرت امرأة لوط معهم . ولم تكن تفعل فاحشة اللواط . فإنه لا يقع من المرأة . ولكن لما رضيت فعلهم ، عمها معهم العذاب فمن هذا الباب قيل : من أعان على الفاحشة وإشاعتها ، مثل القواد . لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله . وكذلك أهل الصناعات التي تنفق ، مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها ، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة ، وتمكنوا من دفع من ينكرها . بخلاف ما إذا كانت قليلة . ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهى عن طاعته ، منهي عنه محرم . كما قال {[5767]} تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر } أي ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك . وقال في الخمر والميسر {[5768]} : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } أي يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة ، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر ، كما هو الواقع . فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما ، فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع ، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع . والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام ، والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام . ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش ، ما لا يكثر من غيرها . حتى ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه . وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه . ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك . لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء . وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال ، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من يسكرون به . وأيضا فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره . فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى {[5769]} : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {[5770]}( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ؛ قال : إصلاح ذات البين . فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء . وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك وأيضا ، فالعداوة والبغضاء شر محض ، لا يحبهما عاقل . بخلاف المعاصي فإن فيها لذة . والنفوس تريدها ، والشيطان يدعو إليها ، ليوقعها في شر لا تهواه . والله سبحانه قد بين ما يريد الشيطان بالخمر والميسر ، ولم يذكر ما يريده الإنسان . ثم قال {[5771]} في سورة النور : { لا تتبعوا خطوات الشيطان ، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } وكذلك في البقرة {[5772]} ، نهى عن اتباع خطواته . وهو اتباع أمره بالاقتداء والإتباع . وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم . وقال {[5773]} فيها : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا {[5774]} : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } وقال {[5775]} : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } وقال عن نبيه {[5776]} : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } الآية . وقال عن أمته {[5777]} : { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة . فتارة يخص اسم المنكر بالنهي ، وتارة يقرنه بالفحشاء ، وتارة يقرن معهما البغي . وكذلك المعروف ، تارة يخصه بالأمر ، وتارة يقرن به غيره . كقوله {[5778]} : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } الآية . وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب . كلفظ ( الفقير والمسكين ) . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه . واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه . وإذا قرن المنكر بالفحشاء ، فالفحشاء مبناها على المحبة ، والمنكر هو الذي تنكره القلوب . فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه . فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس . وكذلك البغي ، وقرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس . ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء . ومنشؤه من قوة الغضب . ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها . فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر . وأما الإشراك والقول على الله بلا علم ، فإنه منكر محض . ليس في النفوس ميل إليهما . بل إنما يكونان عن عناد وظلم . فهما منكر محض بالفطرة {[5779]} : { ومن يتبع خطوات الشيطان . فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } سواء كان الضمير عائدا إلى الشيطان أو إلى المتبع . فإن من أتى ذلك ، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له . وإن كان الآتي هو الآمر ، فالأمر بالفعل أبلغ من فعله . فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه .
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين .
ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .
وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب . فإنه قد ثبت في ( الصحيح ) {[5780]} عن عائشة في قصة الإفك . أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة وكان أحد الخائضين في الإفك من شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم ، والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجبا ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
الرابع – قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها . ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه – ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها كان في بابه ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى {[5781]} : { إن الذين يرمون } إلى قوله : { هو الحق المبين } لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عبدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذاك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سئل عن هذه الآيات فقال : ( من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ) . وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد {[5782]} : { وشهد شاهد من أهلها } وبرأ موسى {[5783]} من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم {[5784]} بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها { إني عبد الله } وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة ، بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .
ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .
( فإن قلت ) إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما – أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لاحق به . وإذا أردن وعائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولا والثاني – أنها أم المؤمنين ، فجمعت . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .
قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات ، والمقصود بذكرهن على هذا العموم ، وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه . ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . وهذا معنى قول زليخا {[5785]} : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } فعممت وأرادت يوسف ، تهويلا عليه وإرجافا . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .
الخامس – قال الإمام ابن تيمية في ( منهاج السنة ) ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في ( الصحيحين ) {[5786]} عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر {[5787]} :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم *** فذاك أمانة الله الثريد
وذلك أن البر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام . كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم ) فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .
وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق انه قال {[5788]} ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) وفي ( الصحيح ) {[5789]} عن عمرو بن العاص قال : ( قلت : يا رسول الله ! أي النساء أحب إليك ؟ قال ( عائشة ) قلت ومن الرجال ؟ قال ( أبوها ) قلت : ثم من ؟ قال : ( عمر ) وسمى رجالا ) . وهؤلاء يقولون : قوله عليه الصلاة والسلام لخديجة : ( ما أبدلني الله خيرا منها ) . إن صح معناه ما أبدلني خيرا لي منها ، فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيرا له من هذا الوجه ، لكونها نفعته وقت الحاجة ، وعائشة صحبته في آخر النبوة . وكمال الدين فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة فكانت الأفضل لهذه الزيادة . فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئا ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة . ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا ، وأكثر جهادات بنفسه وماله ، كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها . وإن نساءه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في ( الصحيح ) {[5790]} ( أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساءه غرن من ذلك ، وأرسلن إليه {[5791]} فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : أي بنية أما تحبين ما أحب ؟ قالت : بلى . قال : فأحبي هذه ) . الحديث في ( الصحيحين ) {[5792]} وفي ( الصحيحين ) أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى ) . ووهبت {[5793]} سودة بنت زمعة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه . صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه {[5794]} الذي مات فيه يقول : ( أين أنا اليوم ؟ استبطاء ليوم عائشة ) . ثم {[5795]} استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض فيه . وفي {[5796]} بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت {[5797]} رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ( ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين بركة ) . وقد كانت {[5798]} نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سماوات ، وجعلها من الصينات ، وبالله التوفيق . انتهى .
وأغرب الإمام ابن حزم ، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء ، نساءه صلى الله عليه وسلم . ومعلوم أن عائشة فضلاهن . وقد أسهب في ذلك في كتابه ( الملل ) فارجع إليه .
السادس – قال القاشاني رحمه الله تعالى : إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه ، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة ، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية ، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية . وتوريطه في المهالك الهيولانية . والمهاوي الظلمانية ، على حسب تفاوت مبادئها . فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف . كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ . وبالعكس . لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف ، كان ما يقابلها من الرذيلة أخس . والإفك رذيلة القوة الغضبية . فبحسب شرف الأولى على الباقيتين . تزداد رداءة رذيلتها . وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا ، وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات – إنما يكون بها . فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها ، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى ، وحقت العقوبة بالنار . وهو الرين والحجاب الكلي .
ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الآلهية ، من السبعية والبهيمية ؟ وأبعد بما لا يقدر قدره . فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطانا ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين ، يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع . وكل حيوان أرجى صلاحا ، وأقرب فلاحا من الشيطان . ولهذا قال تعالى {[5799]} : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان . فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته ، وصاحبه يكون من جنوده واتباعه فيكون أخس منه وأذل ، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعونا في الدنيا والآخرة ، ممقوتا من الله والملائكة . تشهد عليه جوارحه بتبذل صورها وتشوه منظرها . خبيث الذات والنفس . متورطا في الرجس . فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين . كما قال تعالى : { الخبيثات للخبيثين } وإما الطيبون المنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل . انتهى .
السابع – في سر قرن الزنى بالشرك في قوله تعالى {[5800]} : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } وتحقيق القول في الآية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( إغاثة اللهفان ) : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات . من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة ، أكثرهم شركا . فكلما كان الشرك في العبد أغلب ، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر . وكلما كان أعظم إخلاصا ، كان منها أبعد . كما قال تعالى {[5801]} عن يوسف الصديق عليه السلام { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها . بل هو من أعلى أنواع التعبد . ولاسيما إذا استولى على القلب وتمكن منه ، صار تتيما . والتتيم التعبد . فيصير العاشق عابدا لمعشوقه . وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه ، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته . بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ، ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور . كما هو مشاهد . فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل . يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه . ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله . وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله . ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى . فيصير آثر عنده من ربه حبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة . ولهذا كان العشق والشرك متلازمين . وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة . فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه . والزنى واللواطة ، كمال لذته ، إنما يكون من العشق . ولا يخلوا صاحبهما منه . وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد . بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده . فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين . ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله . فإنهما من أعظم الخبائث . فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب . وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا . ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد في ( كتاب الزهد ) لا يكون البطالون من الحكماء . ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى . قال الله تعالى {[5802]} : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } والصواب القول بأن هذه الآية محكمة . يعمل بها لم ينسخها شيء . وهي مشتملة على خبر وتحريم . ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة . والذي أشكل منها على كثير من الناس ، واضح بحمد الله تعالى . فإنهم أشكل عليهم قوله {[5803]} : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } هل هو خبر أو نهي أو إباحة ؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة . وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة ، فيكون نهيا له من نكاح المؤمنات العفائف ، وإباحة له نكاح المشركات والزواني . والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا . فلما أشكل عليهم ذلك ، طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه . فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنى . فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة . وهذا فاسد . فإنه لا فائدة فيه . ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك . فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية . فأي فائدة في الإخبار بذلك . ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه . ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى . والمراد به رجل واحد {[5804]} وامرأة واحدة . وهي عناق وصاحبها فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية . وهذا أيضا فاسد . فإن هذه الصورة المعينة ، وإن كانت سبب النزول ، فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه . ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها . وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله {[5805]} : { وأنكحوا الأيامى منكم } وهذا أفسد من الكل . فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين . ولا تناقض إحداهما الأخرى . بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى ، وحرم نكاح الزانية ، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم . فأين الناسخ والمنسوخ في هذا ؟ ( فإن قيل ) : فما وجه الآية ؟ قيل : وجهها ، والله أعلم ، أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة . وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط . كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة . والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه . والإباحة قد علقت على شرط الإحصان . فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به . فالمتزوج ، إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله ، أو لا يلتزمه . فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله ، وإن التزمه وخالفه ، ونكح ما حرم عليه ، لم يصح النكاح . فيكون زانيا . فظهر معنى قوله : { لا ينكح إلا زانية أو مشركة } وتبين غاية البيان . وكذلك حكم المرأة . وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه ، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل . فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغي . فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه ، ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا ( زوج قحبة ) فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك . فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية . والله الموفق .
ومما يوضح التحريم ، وانه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة ، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج ، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم . وعدوه من جملة نعمه عليهم . فالزنى يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب ، فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتتستبرأ . وأيضا ، فإن الزانية خبيثة ، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة . والمودة خالص الحب ، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب ، زوجا له ؟ والزوج سمي زوجا من الازدواج . فالزوجان ، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا . فلا يحصل معها الازدواج . والتراحم والتواد . فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ، ومنع الرجل من أن يكون زوج قحبة . فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة ، وقد وطئها الزاني البارحة ؟ وقال : ماء الزاني لا حرمة له . فهب أن الأمر كذلك ، فماء الزوج له حرمة . فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد ، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات . وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالا . وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد . فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء . فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة . بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة ، وطهرا لبدنه بالماء . وقول اللوطية {[5806]} : { أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } من جنس قوله في أصحاب الأخدود {[5807]} : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } وقوله سبحانه {[5808]} : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما انزل من قبل } وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك ، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وانه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها . فصبر الموحد المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم ، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه ، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله ، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .
إذا لم يكن بد من الصبر ، فاصطبر *** على الحق . ذاك الصبر تحمد عقباه .
كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري ، صاحب ( الروض ) إلى أبيه ، وقد قطع نفقته :
لا تقطعن عادة بر ، ولا *** تجعل عتاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح *** يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى *** وعوتب الصديق في حقه
قد يمنع المضطر من ميتة *** إذا عصى بالسير في طرقه