محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله :

120

( إن تمسسكم حسنة تسؤكم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط120 ) .

( إن تمسسكم حسنة ) بظهوركم على العدو ، ونيلكم الغنيمة ، وخصب معاشكم ، وتتابع الناس في دينكم ( تسؤهم وان تصبكم سيئة ) بإصابة العدو منكم ، أو اختلاف بينكم ، أو جدب أو بلية ( يفرحوا بها ) ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة .

لطيفة :

المس أصله باليد ، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسا . والتعبير به في جانب الحسنة ، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن . وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله : ( إن تصبك / حسنة تسؤهم وان تصبك مصيبة ) . وقوله : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) . وقال : ( إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا ) .

قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : يمكن أن يقال : المس أقل تمكنا من الإصابة ، وكأنه أقل درجاتها ، فكأن الكلام –والله أعلم- إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها . وان تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها ، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ، ولا في هذه الحال . بل يفرحون ويسرون . والله أعلم –انتهى-

وهذا من أسرار بلاغة التنزيل . فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن . فإذا ساءهم أقل خيرنا ، فغيره أولى . وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلا . فكيف تتخذونهم بطانة ؟ . قال البقاعي : ولما كان هذا الأمر منكيا غائظا مؤلما داواهم بالإشارة الى النصر بشرط التقوى والصبر فقال : ( وان تصبروا وتتقوا ) أي تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء الى ولايتهم ( لا يضركم كيدهم شيئا ) لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره : ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه . والمستعين بغيره : مخذول موكول الى نفسه ، محروم عن نصرة ربه . أفاده القاشاني .

/ وقيل : المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به ، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال ، جريئا على الخصم . و ( الكيد ) الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه ( ان الله بما يعملون محيط ) قرئ بياء الغيبة ، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه . وبتاء الخطاب ، أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله .

تنبيه مهم :

قال الرازي : إطلاق لفظ ( المحيط ) على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء ، قادرا على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله : ( والله من ورائهم محيط ) . –انتهى-

أقول : ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث ، وأخذ خاصتها به ، وهو قياس مع الفارق . والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب ، لا من الوضع المحدث . فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني ، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني . وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير ( الرحمن الرحيم ) من البسملة أول التنزيل الجليل . فارجع إليها .