( والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليما حكيما24 ) .
( والمحصنات ) أي وحرمت عليكم المزوجات ( من النساء ) حرائر واماء ، مسلمات ، أو لا . لئلا تختلط المياه فيضيع النسب ( الا ما ملكت أيمانكم ) أي من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر . فهن حلال لغزاة المسلمين ، وان كن محصنات . لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء . روى الإمام أحمد ومسلم{[1628]} وأبو داود والترمذي / والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال : " أصبنا سبايا من سبي أوطاس . ولهن أزواج . فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج . فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ( والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم ) فاستحللنا فروجهن " .
استدل بعموم الآية من قال : ان انتقال الملك ببيع أو ارث أو غير ذلك يقطع النكاح . عن ابن مسعود قال : " اذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها " . وعنه : " بيع الأمة طلاقها " . وروي ذلك أيضا عن أبي بن كعب وجابر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا : " بيعها طلاقها " . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : " طلاق الأمة ست : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها " .
كذا قرأته في ( تفسير ابن كثير ) . ولا يخفى أن المعدود خمسة . ولعل السادس بيع زوجها . حيث قال بعد ذلك : وروى عوف عن الحسن : " بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها " . فهذا قول هؤلاء من السلف . وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى : ( الا ما ملكت أيمانكم ) والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقا لها . واحتجوا بحديث بريرة المخرج في ( الصحيحين ) {[1629]} وغيرهما . فان عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث . بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة . فلو كان / بيع الأمة طلاقها لما خيرت . وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط . وبالجملة ، فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه .
قال الرازي : وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . أي وهو مقبول ومعمول به في غير ما موضع . كنصاب السرقة . وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره .
اتفق القراء على فتح الصاد في ( المحصنات ) هنا . ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع . وكلاهما مشهور . فالفتح على أنهن أحصن بالأزواج أو بالإسلام . والكسر على أنهن أحصن فروجهن أو أزواجهن . واشتقاق الكلمة من الاحصان وهو المنع ( كتاب الله ) مصدر مؤكد . أي كتب الله ( عليكم ) تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا ، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه ( وأحل لكم ) عطف على ( حرمت عليكم ) ( ما وراء ذلكم ) اشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة . أي أحل لكم نكاح ما سواهن ( أن تبتغوا ) مفعول له . أي أحل لكم ارادة أن تبتغوا . أو بدل من ( ما ) أي ابتغاء النساء ( بأموالكم ) أي بصرفها إلى مهورهن ( محصنين ) حال من فاعل ( تبتغوا ) والاحصان : العفة ، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم ( غير مسافحين ) غير زانين ، والسفاح الزنى والفجور . من السفح وهو الصب . لأنه لا غرض للزاني الا سفح النطفة . وكان أهل الجاهلية ، إذا خطب الرجل المرأة ، قال : انكحيني . فاذا أراد الزنى قال : سافحيني . قال الزجاج : المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح .
قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم –عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر . فمن ذلك ، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها . وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم . وقال : لا نعلم بينهم اختلافا / في ذلك . ومن ذلك ، نكاح المعتدة . ومن ذلك ، أن من كان في نكاحه حرة ، لا يجوز له نكاح الأمة . ومن ذلك ، القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة . ومن ذلك ، من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة . ومن ذلك ، الملاعنة فانها محرمة على الملاعن أبدا . فالآية مما نزل عاما ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها .
قال الإمام الشافعي في ( الرسالة ) :
فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم .
فقال في كتابه : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم ) .
وقال : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم * وكان فضل الله عليك عظيما ) .
فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن . وذكر الحكمة . فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا يشبه ما قال . والله أعلم .
لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة ، وذكر الله جل ثناؤه منّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة . فلم يجز ، والله أعلم ، أن يقال : الحكمة ههنا الا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتم على الناس اتباع أمره –فلا يجوز أن يقال لقول : فرض ، الا لكتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مقرونا بالايمان به .
/ وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد –دليلا على خاصه وعامه . ثم قرن الحكمة بها بكتابه ، فأتبعها اياه . ولم يجعل هذا لأحد من خلقه ، غير رسوله صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وانما أوردنا هذا تزييفا لزعم الخوارج أن حديث " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها{[1630]} " المروي في ( الصحيحين ) وغيرهما ، خبر واحد . وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز . كما نقله عنهم الرازي . وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة . وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة . فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن . فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى . وأنه لا يجوز . انتهى .
وقد توسع الرازي هنا في الجواب عن شبهتهم . ومما قيل فيه : ان تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) .
قال العلامة أبو السعود : ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها . فان مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله . وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء . بل أولى . فان العمة والخالة بمنزلة الأم . فقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة " . الخ ، من قبيل بيان التفسير . لا بيان التغيير . وقيل : هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب .
وقال أيضا : ولعل ايثار اسم الاشارة ( يعني في قوله : ( ما وراء ذلكم ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه ، على الضمير المتعرض للذات فقط –لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة . فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريق الدلالة . فان حرمة الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، ليست بطريق العبارة ، بل بطريق الدلالة ، كما سلف . انتهى .
/ وفي ( تنوير الاقتباس ) : ويقال في قوله تعالى : ( أن تبتغوا بأموالكم ) أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة . وقد نسخت الآن . انتهى . وسيأتي الكلام على ذلك . ( فما استمتعتم به منهن ) أي من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع ( فآتوهن ) فأعطوهن ( أجورهن ) مهورهن كاملة ( فريضة ) أي من الله عليكم أن تعطوا المهر تاما . و ( فريضة ) حال من الأجور . بمعنى مفروضة . أو نعت لمصدر محذوف . أي ايتاء مفروضا . أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة ( ولا جناح عليكم ) لا حرج عليكم ( فيما تراضيتم به ) أنتم وهن ( من بعد الفريضة ) أي من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي ( ان الله كان عليما حكيما ) فيما شرع من الأحكام .
حمل قوم الآية على نكاح المتعة . قالوا : معنى قوله تعالى : ( فما استمتعتم به منهن ) أي فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة ، فآتوهن أجورهن .
قال الحافظ ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة . ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك . وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة . وهو رواية عن الإمام أحمد . وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ، فآتوهن أجورهن فريضة . وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة . ولكن الجمهور على خلاف ذلك . والعمدة ما ثبت في ( الصحيحين ) {[1631]} عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " . وفي ( صحيح مسلم ) {[1632]} عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه " أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس ! اني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء . وان الله حرم ذلك إلى يوم القيامة . فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله . ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " . انتهى .
وفي ( الكشاف ) : قيل نزلت هذه الآية في المتعة . كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما . ليلة أو ليلتين أو أسبوعا . بثبوت أو غير ذلك . ويقضي منها وطره ثم يسرحها . سميت متعة لاستمتاعه بها ، أو لتمتيعه لها بما يعطيها .
وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما : " أتدري ما صنعت بفتواك ؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر . كقوله :
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه*** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟
هل لك في رخصة الأطراف آنسة *** تكون مثواك حتى مصدر الناس ؟
فقال : انا لله وانا إليه راجعون . والله ! ما بهذا أفتيت ولا أحللت ، الا مثل ما أحل الله الميتة والدم " .
وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في ( زاد المعاد ) في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه ، ما نصه : ومما وقع في هذه الغزوة اباحة متعة النساء . ثم حرمها صلى الله عليه وسلم قبل خروجه من مكة . واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال :
أحدها : انه يوم خيبر . وهذا قول طائفة من العلماء . منهم الشافعي وغيره .
والثاني : انه عام فتح مكة . وهذا قول ابن عيينة وطائفة .
والثالث : انه عام حنين . وهذا في الحقيقة هو القول الثاني –لاتصال غزاة حنين بالفتح .
والرابع : انه عام حجة الوداع . وهو وهم من بعض الرواة . سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع . وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة ، كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن / دونهم . والصحيح أن المتعة انما حرمت عام الفتح . لأنه قد ثبت في ( صحيح مسلم ) {[1633]} أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم باذنه . ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين . وهذا لا عهدة بمثله في الشريعة البتة . ولا يقع مثله فيها . وأيضا ، فان خيبر لم يكن فيها مسلمات . وانما كن يهوديات . واباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد . انما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة لقوله : ( اليوم أحل لكم الطيبات * وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم * والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) {[1634]} . وهذا متصل بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ){[1635]} . وبقوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع ، أو فيها . فلم تكن اباحة نساء أهل الكتاب ثابتة من خيبر . ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع . ونساء عدوهم قبل الفتح وبعد الفتح ، استرق من استرق منهم / وصرن اماء للمسلمين . فان قيل : فما تصنعون بما ثبت في ( الصحيحين ) من حديث علي بن أبي طالب{[1636]} " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية ؟ " وهذا صحيح صريح . قيل : هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين : هذا أحدهما . والثاني الاقتصار على " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " ، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري . قال : قال القاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر لا عن نكاح المتعة . ذكره أبو عمر في ( التمهيد ) ثم قال : على هذا أكثر الناس . انتهى ، فتوهم بعض الرواة أن ( يوم خيبر ) ظرف لتحريمهن فرواه : " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر والحمر الأهلية " . واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال : " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر " . فجاء بالغلط البين . فان قيل : فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد ؟ وأين المتعة من تحريم الخمر ؟ قيل : هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه محتجا به على ابن عمه ، عبد الله بن عباس في المسألتين . فانه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر . فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين وروى له التحريمين . وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر . وأطلق تحريم المتعة وقال : " انك امرؤ تائه . ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " . كما قاله سفيان بن عيينة . وعليه أكثر الناس . فروى الأمرين محتجا عليه بهما ، لا مقيدا بهما بيوم خيبر . والله الموفق .
ولكن ههنا نظر آخر . وهو انه هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال ، أو حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال : " أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم " . فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة ، أمسك ابن عباس عن الافتاء بحلها ورجع عنه : وقد كان ابن مسعود يرى اباحتها ويقرأ : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا / طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ) {[1637]} . ففي ( الصحيحين ) {[1638]} عنه : " كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم . وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ عبد الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين " {[1639]} . وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث تحتمل أمرين :
أحدهما : الرد على من يحرمها وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أن يكون أراد آخر هذه الآية وهو الرد على من أباحها مطلقا ، وأنه معتد . فان رسول الله صلى الله عليه وسلم انما رخص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو ، وعند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة . فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وامكان النكاح المعتاد فقد اعتدى والله لا يحب المعتدين . فإن قيل : فما تصنعون بما روى مسلم{[1640]} في ( صحيحه ) من حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا : " خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ( يعني متعة النساء ) " قيل : هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم{[1641]} في ( صحيحه ) عن سلمة بن الأكوع قال : " رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عام أوطاس ، في المتعة ثلاثا . ثم نهى عنها " . وعام أوطاس هو وعام الفتح واحد . لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة . فان قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم / في ( صحيحه ) {[1642]}عن جابر بن عبد الله قال : " كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق ، الأيام ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر . حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث " . وفيما ثبت عن عمر أنه قال{[1643]} : " متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج ؟ " قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : ان عمر هو الذي حرمها ونهى عنها . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون . ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح . فانه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده . وقد تكلم فيه ابن معين . ولم ير البخاري إخراج حديثه في ( صحيحه ) مع شدة الحاجة اليه ، وكونه أصلا من أصول الإسلام . ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به . قالوا : ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية . قالوا أيضا : ولو صح لم يقل عمر : انها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها . بل كان يقول : انه صلى الله عليه وسلم حرمها ونهى عنها . قالوا : ولو صح لم يفعل على عهد الصديق ، وهو عهد خلافة النبوة حقا . والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة . ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة / النساء " . فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنه بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه . فلما وقع فيها ظهر واشتهر . وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها ، وبالله التوفيق . انتهى .
هذا ، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا : المراد من قوله تعالى : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به ) الخ أنه إذا كان المهر مقدرا معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر ، أو تبرئته عنه بالكلية ، بالتراضي ، كما تقدم . وهو كقوله تعالى : ( فان طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) وقوله : ( الا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) .
وقد روى ابن جرير{[1644]} عن حضرمي أن رجالا كانوا يقرضون المهر . ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة . فقال الله : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) الخ . يعني ان وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ . وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة ، قالوا : المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة . فان قال لها : زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة –كانت المرأة بالخيار . ان شاءت فعلت وان شاءت لم تفعل . فهذا هو المراد من قوله : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) . أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل . أفاده الرازي .
قال السدي : ان شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى . يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما . فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا . فان شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة . وهو قوله تعالى : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل . وهي منه بريئة . وعليها أن تستبرئ ما في رحمها . وليس بينهما ميراث . فلا يرث واحد منهما صاحبه . / قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الأول . لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .