محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

[ 94 ] { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( 94 ) } .

{ ولقد جئتمونا } أي : للحساب والجزاء { فرادى } أي : منفردين عن الأموال والأولاد ، وما أثرتموه من الدنيا . أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم . { فرادى } جمع فريد ، كأسير وأسارى .

/ { كما خلقناكم أول مرة } أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، حفاة عراة غرلا يعني ( قلفا ) .

وروى الشيخان{[3578]} عن ابن عباس قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : أيها الناس  ! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ، { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " .

ورويا أيضا{[3579]} عن عائشة قالت/ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله  ! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟  ! قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " .

وروى الطبري{[3580]} بسنده عن عائشة " أنها قرأت قول الله عز وجل : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } فقالت : يا رسول الله  ! واسوأتاه  ! إن الرجال والنساء يحشرون / جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . لا ينظر الرجال إلى النساء ، ولا النساء إلى الرجال ، شغل بعضهم عن بعض " .

{ وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا ، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم والخول { وراء ظهوركم } يعني : في الدنيا ، ولم تحملوا منه نقيرا . كناية عن كونهم لم يصرفوه إلى ما يفيد الآخرة .

وقد ثبت في ( الصحيح ) {[3581]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي  ! مالي  ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " ؟ وزاد في رواية : " وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .

{ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي : لله في الربوبية ، واستحقاق العبادة ، { لقد تقطع بينكم } قرئ بالرفع . أي : شملكم . فإن البين من الأضداد ، يستعمل للوصل والفصل . وبالنصب على إضمار الفاعل ، لدلالة ما قبله عليه . أي : تقطع الأمر ، أو الاشتراك ، أو وصلكم بينكم . أو على إقامته مقام موصوفه . والأصل :/ لقد تقطع ما بينكم ، وقد قرئ به . أي : تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات .

{ وضل عنكم ما كنتم تزعمون } أي : ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام ، كقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا ، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار }{[3582]} . وقال تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }{[3583]} . والآيات في هذا كثيرة جدا .


[3578]:- أخرجه البخاري في: 60- كتاب الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى {واتخذ الله إبراهيم خليلا}،حديث 1585 ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلا" ثم قرأ: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}. "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي ! أصحابي! فيقول: انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقهم. فأقول، كما قال العبد الصالح:{وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم}_ إلى قوله: {الحكيم}. وأخرجه مسلم في: 51- كتابه الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 58 (طبعتنا).
[3579]:- أخرجه البخاري في: 81- كتاب الرقاق، 45- باب كيف الحشر، حديث 2451 وأخرجه مسلم في: 51- كتاب الجنة وصفة نعيمها، حديث 56 (طبعتنا).
[3580]:- الأثر رقم 135701 من التفسير.
[3581]:- أخرجه مسلم في: 53- كتاب الزهد والرقائق، حديث 3 و4 (طبعتنا) عن عبد الله بن الشخير.
[3582]:- [2/ البقرة/ 166 و 167].
[3583]:- [23/ المؤمنون/ 101].