عندما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني المصطَلَق ( وهم قوم من خزاعة من القحطانيين ) وهاجمهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد قرب الساحل - هزمهم وساق إبلهم وأموالهم ونساءهم سبايا . وكان في تلك الغزوة رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ . وقد وقع شجارٌ بين غلام لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن أبي ، وكاد يقع شر كبير بين المهاجرين والأنصار لولا أن تدخّل الرسول الكريم وحسم الخلاف وسار بالناس باتجاه المدينة .
في هذه الأثناء قال عبد الله بن أبي : لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا ، واللهِ ما نحن وهم إلا كما قال المثل : « سَمِّنْ كَلبك يأكلك » أما واللهِ لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل ، ثم قال لأتباعه : لو أمسكتم عن هذا وذويه فضلَ الطعام لم يركبوا رقابكم ، فلا تنفِقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد .
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنقَ هذا المنافق ، فقال له : فكيف إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟
ثم قال رسول الله لعبد الله بن أُبي : أنت صاحبُ هذا الكلام الذي بلغني ، قال : والله الذي أنزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئا من ذلك ، وإن الذي بلَّغك لكاذب . فنزلت هذه الآيات .
{ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } .
هؤلاء المنافقون - عبد الله بن أبي وأتباعه - يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله من المؤمنين حتى يتفرقوا عنه ، { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض } ولكنهم نسوا أن الله هو الرازق ، وله جميع هذا الكون وما فيه من أرزاق يعطيها من يشاء ، { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } لجهلهم بسنن الله في خلقه ، وأنه كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا متى عملوا وجدّوا في الحصول عليها .
{ 7-8 } { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين ، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم ، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قالوا بزعمهم الفاسد :
{ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم ، لما اجتمعوا في نصرة دين الله ، وهذا من أعجب العجب ، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين ، وأذية المسلمين ، مثل هذه الدعوى ، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور{[1105]} ولهذا قال الله ردًا لقولهم : { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فيؤتي الرزق من يشاء ، ويمنعه من يشاء ، وييسر الأسباب لمن يشاء ، ويعسرها على من يشاء ، { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة ، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم ، وتحت مشيئتهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره" هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ "يعني الذين يقولون لأصحابهم "لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْد رَسُولِ اللّهِ" من أصحابه المهاجرين "حتى يَنْفَضّوا" يقول: حتى يتفرّقوا عنه.
وقوله: "ولِلّهِ خَزَائِنُ السّمَوَاتِ والأْرضِ" يقول: ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن ذلك، لا يقدر أحد أن يعطي أحدا شيئا إلا بمشيته "وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ" أن ذلك كذلك، فلذلك يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضّوا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا من غاية بخلهم. وقوله تعالى: {حتى ينفضوا} دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه، فأبى الله تعالى إلا إظهاره. وقوله تعالى: {ولله خزائن السماوات والأرض} يبسطها على المنافقين ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين. أو {ولله خزائن السماوات والأرض} يضيقها على المؤمنين ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق. أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى، يوسع عليهم الدنيا بعد ما ضاقت، وقد جعل حين فتح لهم الفتوح، وآتاهم الغلبة على أعدائهم، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... (ولله خزائن السموات والارض)...وإذا كان لله خزائن السموات والأرض، فلا يضرك يا محمد ترك إنفاقهم، بل لا يضرون إلا أنفسهم دون أولياء الله والمؤمنين الذين يسبب الله قوتهم ولو شاء الله تعالى لأغنى المؤمنين، ولكن فعل ما هو أصلح لهم وتعبدهم بالصبر على ذلك لينالوا منزلة الثواب (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك على الحقيقة لجهلهم بعقاب الله تعالى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غيرُ متحقِّقين بتصريف الأيام، فأنْطَقَهُم بما خَامَرَ قلوبَهم مِنْ تَمَنِّي انطفاء نورِ رسول الله، وانتكاث شَمْلِهم، فتواصَوْا فيما بينهم بقولهم: {لاَ تُنفِقُواْ عَلى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} فقال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ}. وليس استقلالُك -يا محمد- ولا استقلالُ أصحابِك بالمرزوقين.. بل بالرازق؛ فهو الذي يمسككم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا داعياً إلى السؤال عن الأمر الذي فسقوا به، قال مبيناً له: {هم} أي خاصة بواطنهم {الذين يقولون} أي أوجدوا هذا القول ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير غير محققين بتصريف الأحكام، فأنطقهم ما خامر قلوبهم من تمني إطفاء نور الله فتواصوا فيما بينهم بقولهم: {لا تنفقوا} أيها المخلصون في النصرة {على من} أي الذين {عند رسول الله} أي الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين، وكأنهم عبروا بذلك وهم لا يعتقدونه تهكماً وإشارة إلى أنه لو كان رسوله وهو الغنى المطلق لأغنى أصحابه ولم يحوجهم إلى أن ينفق الناس عليهم... على أنهم ظنوا أن أبواب الرزق تغلق إذا امتنع المنفقون من الناس عن إنفاقهم، وعبروا بحرف غاية ليكون لما بعده حكم ما قبله فقالوا: {حتى ينفضوا} أي يتفرقوا تفرقاً قبيحاً فيه كسر فيذهب أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك،[...] وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله غيرهم للإنفاق، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد...
{ولله} أي قالوا ذلك واستمروا على تجديد قوله والحال أن للملك الذي لا أمر لأحد معه فهو الآمر الناهي {خزائن السماوات} أي كلها {والأرض} كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدرة "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها ما يشاء حتى من أيديهم، لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يد غيره...
{ولكن المنافقين} أي العريقين في وصف النفاق...
{لا يفقهون} أي لا يتجدد لهم فهم أصلاً لأن البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً ما في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرة ما أخرج الله من خوارق البركات على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويحكي طرفا من فسقهم، الذي استوجب قضاء الله فيهم: (هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا).. وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع...
.ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين...
ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية: (ولله خزائن السماوات والأرض. ولكن المنافقين لا يفقهون).. ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين...
فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم سَتروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمتُ أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضاً تعريض بالتوبيخ... وليَكون للجملة الاسمية إفادةُ ثبات الخبر، وليكون الإِتيان بالموصول مشعراً بأنهم عرفوا بهذه الصّلة. وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها...
وقوله: {رسول الله} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أُبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهراً في ملإِ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذٍ بالإِسلام...
{وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والارض ولكن المنافقين لاَ يفقهون}. عطف على جملة {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإِنفاق وذلك دأبَه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب « أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ولكن ابتع عليَّ فإذا جاءني شيء قضيتُه. فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أَنفق ولا تخشَ من ذِي العرشِ إقلالاً. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أُمرتُ». رواه الترمذي في كتاب « الشمائل»...
وتقديم المجرور من قوله: {ولله خزائن السماوات والأرض} لإِفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإِنفاق على مَن عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعاً بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع. واستدراك قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإِنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر. والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ} وهذا لونٌ من ألوان الحرب الاقتصادية التي كان المنافقون يعملون على التخطيط لها لإبعاد المؤمنين المحيطين بالرسول عنه، وذلك بالإيعاز إلى الأغنياء الذين ينفقون على المهاجرين أو غيرهم من المسلمين المستضعفين ليمتنعوا عن الإنفاق عليهم، ولكنّ الله سبحانه يردّ على هؤلاء بأن الله لم يجعل مصادر الرزق الذي يمد به عباده المؤمنين محصورةً في موردٍ خاصٍ، أو في جماعاتٍ معينةٍ، ليعيشوا المشكلة القاتلة في حياتهم العامة عندما يغلق عنهم هذا الباب أو ذاك. {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} التي تتسع للخلائق كلهم، فلا تضيق عن أحدٍ، ولا تنفذ مواردها مهما امتدت في موارد الحياة كلها، وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرضها الألوهية المطلقة المهيمنة على الأمر كله، وعلى الخلق كلهم. {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} لاستغراقهم في عقدة النفاق التي تحجب عنهم حقائق العقيدة والحياة، فلا يملكون الانفتاح على الله في آفاق غناه وقدرته المطلقة...
ولما كان هذا داعياً إلى السؤال عن الأمر الذي فسقوا به ، قال مبيناً له : { هم } أي خاصة{[65525]} بواطنهم { الذين يقولون } أي أوجدوا هذا{[65526]} القول ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير غير محققين بتصريف الأحكام ، فأنطقهم ما خامر قلوبهم من تمني إطفاء نور الله فتواصوا فيما بينهم بقولهم : { لا تنفقوا } {[65527]}أيها المخلصون في النصرة { على من } أي الذين{[65528]} { عند رسول الله } أي الملك المحيط بكل شيء ، وهم فقراء المهاجرين ، وكأنهم{[65529]} عبروا بذلك وهم لا{[65530]} يعتقدونه تهكماً وإشارة إلى أنه لو{[65531]} كان رسوله وهو الغنى المطلق لأغنى أصحابه ولم يحوجهم إلى أن ينفق الناس عليهم ، وما درى الأغبياء {[65532]}أن ذلك{[65533]} امتحان منه سبحانه لعباده - فسبحان من يضل من يشاء - حتى يكون كلامه أبعد شيء عن الصواب بحيث يعجب العاقل كيف يصدر ذلك من أحد ، أو أن هذه ليست عبارتهم وهو الظاهر ، وعبر سبحانه عنهم بذلك إشارة إلى أن كلامهم يؤول إلى إرادة ضر من الله معه توقيفاً على كفرهم وتنبيهاً على أن من أرسل رسولاً لا يكله إلى أحد بل يكفيه جميع ما يهمه من غير افتقار إلى شيء أصلاً ، فقد أرسل سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض فأباها{[65534]} وما كفاهم هذا الجنون حتى زادوه ما دل على أنهم ظنوا أن أبواب الرزق تغلق إذا امتنع المنفقون من الناس عن إنفاقهم ، وعبروا بحرف غاية ليكون لما{[65535]} بعده حكم ما قبله فقالوا : { حتى ينفضوا } أي يتفرقوا تفرقاً قبيحاً فيه كسر فيذهب أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك ، قال الحرالي{[65536]} : " حتى " كلمة تفهم غاية محوطة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها{[65537]} مقابل معنى " إلى " ، وقال أهل العربية : لا يجر بها إلى آخر أو متصل بالآخر نحو الفجر في
{ حتى مطلع الفجر }[ القدر : 5 ] وحتى آخر الليل ، ولا تقولوا : حتى نصف الليل ، وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح{[65538]} الله غيرهم للانفاق ، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً ، أو كان بحيث لا ينفد ، أو أعطى كلاًّ يسيراً من طعام على كيفية لا تنفد{[65539]} معها كتمر أبي هريرة وشعير عائشة وعكة أم أيمن رضي الله عنهم وغير ذلك كما روي ذلك غير مرة ، ولكن {[65540]}ليس لمن{[65541]} يضل الله من هاد ، ولذلك عبر في الرد عليهم بقوله : { ولله } أي قالوا ذلك{[65542]} واستمروا على تجديد قوله{[65543]} والحال أن للملك{[65544]} الذي لا أمر {[65545]}لأحد معه فهو الآمر الناهي{[65546]} { خزائن السماوات } أي كلها{[65547]} { والأرض } كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدرة " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها ما يشاء حتى من أيديهم ، لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يد غيره ، ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم : إن كان محمد صادقاً فنحن شر من البهائم ، أشار إلى ذلك بقوله : { ولكن المنافقين } أي العريقين في وصف النفاق .
ولما كان ما يساق إلى الخلق من الأرزاق فيظن كثير منهم أنهم حصلوه بقوتهم ، عبر بالفقه الأخص من العلم فقال : { لا يفقهون * } أي لا يتجدد لهم فهم أصلاً لأن البهائم إذا رأت{[65548]} شيئاً ينفعها{[65549]} يوماً ما في مكان طلبته مرة أخرى ، وهؤلاء رأوا غير مرة ما أخرج الله من خوارق البركات على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك ، فمن رأى أن رزقه بيد{[65550]} الخلق فألهاه ذلك عن الله حتى ضيع حقوقه وداهن في دينه فقد برئ من القرآن ،
{ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ( 7 ) }
هؤلاء المنافقون هم الذين يقولون لأهل " المدينة " : لا تنفقوا على أصحاب رسول الله من المهاجرين حتى يتفرقوا عنه . ولله وحده خزائن السموات والأرض وما فيهما من أرزاق ، يعطيها من يشاء ويمنعها عمَّن يشاء ، ولكن المنافقين لا يفهمون ذلك .