تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ} (34)

الآية 34 وقوله تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } قيل : { ولا } الأخيرة ههنا زائدة ، كأنه قال : ولا تستوي الحسنة والسّيئة . وقد يزاد حرف : لا في الكلام ، وقد يُنقص . فعلى ذلك هذا .

ثم جائز أن يكون قوله : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } وقوله : { ادفع بالتي هي أحسن } كل واحد منهما موصول الآخر ؛ يقول : لا تستوي الحسنة والسيئة .

وجائز أن يكون كل واحد منهما مقطوعا من الآخر على الابتداء .

فإن كان أحدهما موصولا بالآخر فيقول{[18513]} : لا تستوي الحسنة والسيئة في جلب حبّ القلوب واللّين والعطف لها ، بل الحسنة تجلُب حبّ القلوب ، بل هما مختلفان متفرّقان ، فادفع سيئتهم بالحسنة ، والله أعلم .

وجائز أن يكون جميعا على الابتداء ، لا اتصال لأحدهما بالآخر ، فإن كانا{[18514]} على الابتداء فمعناهما{[18515]} ، والله أعلم .

إنكم تعلمون بعقولكم أن [ لا استواء ]{[18516]} بين المُحسن والمُسيء ، كذا [ لا استواء ]{[18517]} بينهما في الحكمة . وقد رأيتم أنهما قد استويتا في هذه الدنيا في جميع منافعها ولذاتها ، وجُمع بينهما في هذه ، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما .

دلّ أن هنالك دارا أخرى تفرِّق بينهم في الجزاء والثواب فيها ، والله أعلم . وهو ما ذكر{[18518]} في آية أخرى : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } [ القلم : 35 و36 ] وقوله تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفُجّار } أي لا نجعل هذا كهذا في هذه الحياة . فدل ذلك على أن هناك دارا أخرى ، فيها يقع ذلك التمييز والتفريق . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي جهل ، لعنه الله ، أنه أمر رسوله عليه السلام أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة .

لكن هذا لا يُحتمل ، لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر حين{[18519]} قال : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وأغرى الناس عليه ، فرجع ذلك الإغراء{[18520]} إليه ، فقُتل في ذلك اليوم ، فدلّ أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا .

ثم يخرّج قوله : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } على وجهين :

أحدهما : ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة ، تكون منك إليهم ، أي إذا أحسنت إليهم كفّوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت ، والله أعلم . فيكون قوله : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } [ البقرة : 179 ] .

والثاني : أي ادفع سيئتهم بالعفو الصفح عنهم ، واصفح . فإذا فعلت ذلك يصير { الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي لا [ يُعاديك ]{[18521]} والله أعلم .


[18513]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[18514]:في الأصل وم: كان.
[18515]:في الأصل وم: فمعناه.
[18516]:من م، في الأصل: الاستواء.
[18517]:من م، في الأصل: الاستواء.
[18518]:في الأصل وم: ذكرنا.
[18519]:في الأصل وم: حيث.
[18520]:في الأصل وم: الإعزاز.
[18521]:في الأصل وم: يعاد ذلك.