جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ} (34)

وقوله : وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ يقول تعالى ذكره : ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فأحسنوا في قولهم ، وإجابتهم ربهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته ، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه ، وسيئة الذين قالوا : لا تَسْمَعُوا لَهَذا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم ، ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما ، وقال جلّ ثناؤه : وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُفكرّر لا ، والمعنى : لا تستوي الحسنة ولا السيئة ، لأن كلّ ما كان غير مساوٍ شيئا ، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه ، كما أن كلّ ما كان مساويا لشيء فالاَخر الذي هو له مساو ، مساوٍ له ، فيقال : فلان مساو فلانا ، وفلان له مساو ، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان ، ولا فلان مساويا له ، فلذلك كرّرت لا مع السيئة ، ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : يجوز أن يقال : الثانية زائدة يريد : لا يستوي عبد الله وزيد ، فزيدت لا توكيدا ، كما قال : لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ : أي لأن يعلم ، وكما قال : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في : لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلَ الكِتابِ ، وفي قوله : لا أُقْسِمُ فيقول : لا الثانية في قوله : لَئِلاّ يَعْلَمَ أهْلَ الكِتابِ أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها ، لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم ، كما يقال : لا أظنّ زيدا لا يقوم ، بمعنى : أظنّ زيدا لا يقوم قال : وربما استوثقوا فجاؤوا به أوّلاً وآخرا ، وربما اكتفوا بالأوّل من الثاني . وحُكي سماعا من العرب : ما كأني أعرفها : أي كأني لاأعرفها . قال : وأما «لا » في قوله لا أُقْسِمُ فإنما هو جواب ، والقسم بعدها مستأنف ، ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة .

وإنما عُنِي بقوله : وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةَ وَلا السّيّئَةُ ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته .

وقوله : ادْفِعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك ، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء ، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم ، ويلقاك من قبلهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوّهم ، كأنه وليّ حميم .

وقال آخرون : معنى ذلك : ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : بالسلام .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن مجاهد ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : السلام عليك إذا لقيته .

وقوله : فإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَوَاةٌ كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ يقول تعالى ذكره : افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه ، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة ، كأنه من ملاطفته إياك ، وبرّه لك ، وليّ لك من بني أعمامك ، قريب النسب بك والحميم : هو القريب ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، ، عن قتادة كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ : أي كأنه وليّ قريب .