لبغوا : لظلموا وتجاوزوا حدود الله .
إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه ، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه ، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون ، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ ، ويمنع عمن يشاء . ولو أغناهم جميعا لبغَوا ، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا .
ثم ذكر أن من لطفه بعباده ، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة ، تضر بأديانهم فقال : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ }
أي : لغفلوا عن طاعة الله ، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم ، ولو كان معصية وظلما .
{ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني خبير بصير "
الأولى- قيل : إنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق . وقال خبَّابُ بن الأرت : فينا نزلت ، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت .
" لو بسط " معناه وسع . وبسط الشيء نشره . وبالصاد أيضا . " لبغوا في الأرض " طغوا وعصوا . وقال ابن عباس : بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس . وقيل : أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه ، لقوله : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ) وهذا هو البغي ، وهو معنى قول ابن عباس . وقيل : لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض ، ولتعطلت الصنائع . وقيل : أراد بالرزق المطر الذي هو سبب الرزق ، أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء ، فيقبض تارة ليتضرعوا ويبسط أخرى ليشكروا . وقيل : كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض ؛ فلا يبعد حمل البغي على هذا . الزمخشري : " لبغوا " من البغي وهو الظلم ، أي لبغى هذا على ذاك وذاك على هذا ؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بقارون عبرة . ومنه قول عليه السلام : ( أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ) . ولبعض العرب :
وقد جعل الوَسْمِيُّ يُنبت بيننا *** وبين بني دُودَانَ نَبْعًا وشَوْحَطَا{[13512]}
يعني أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتغابن . أومن البغي وهو البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد . " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم وقال مقاتل : " ينزل بقدر ما يشاء " يجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا .
الثانية- قال علماؤنا : أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح ، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوي عنه الدنيا مصلحة له . فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة الرزق فضيلة ، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد ، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح . والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته ، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال : ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره إساءته ولا بد له منه . وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه . وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا ، فإن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته . وإن من عبادي المؤمنين من يسألني الباب من العبادة وإني عليم أن لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى ، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير ) . ثم قال أنس : اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني برحمتك .
قوله : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } نزلت الآية في قوم من أهل الصِّفَّة تمنوا سعة الدنيا والغنى . قال خباب بن الأرتّ : فينا نزلت هذه الآية . وذلك أنا بطِرْنا إلى أموال قريظة والنضير فتمنيناها ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية{[4107]} { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } أي لو وسَّع الله على عباده في الرزق فأعطاهم مالا كثيرا { لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } ( بغوا ) من البغي وهو الظلم والتعدي . وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء{[4108]} والمعنى : لو أن الله وسع على عباده في الرزق فأعطاهم المال الكثير لطغوا وعصوا وتجبروا وتولوا بطِرين أشِرين .
وقيل : لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه لقوله صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا " وهذا هو معنى البغي . وقيل : لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا .
قوله : { وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } ينزل الله لعباده من الأرزاق ما يختاره لهم مما فيه صلاحهم . وهو سبحانه أعلم بذلك . فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر . وقد جاء في الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحهُ إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه " .
قوله : { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } الله خبير بما يصلح عباده وبما يفسدهم من الغنى والفقر ، أو من السعة والإقتار ؛ فهو يعلم كل ما يصلحهم أو يضرهم . وهو سبحانه بصير بتدبيرهم وتصريف أمورهم بما فيه خيرهم وصلاحهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.