قوله تعالى : " والله خلقكم من تراب ثم من نطفة " قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم عليه السلام ، والتقدير على هذا : خلق أصلكم من تراب . " ثم من نطفة " قال : أي التي أخرجها من ظهور آبائكم . " ثم جعلكم أزواجا " قال : أي زوج بعضكم بعضا ، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها . " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله ، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به ، فلا يخرج شيء عن تدبيره . " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " سماه معمرا بما هو صائر إليه . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : " وما يعمر من معمر " إلا كتب عمره ، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر : نقص من عمره يوم ، نقص شهر ، نقص سنة ، حتى يستوفي أجله . وقاله سعيد بن جبير أيضا ، قال : فما مضى من أجله فهو النقصان ، وما يستقبل فهو الذي يعمره ، فالهاء على هذا للمعمر . وعن سعيد أيضا : يكتب عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره . وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة . ويذهب الفراء في معنى " وما يعمر من معمر " أي ما يكون من عمره " ولا ينقص من عمره " بمعنى آخر ، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب . فالكناية في " عمره " ترجع إلى آخر غير الأول . وكنى عنه بالهاء كأنه الأول ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه ، أي نصف أخر . وقيل : إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع ، وتسعين إن عصى ، فأيهما بلغ فهو في كتاب . وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام : ( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره{[13121]} فليصل رحمه ) أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ : عمر فلان كذا سنة ، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة . فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى : " يمحوا الله ما يشاء ويثبت " {[13122]} [ الرعد : 39 ] والكناية على هذا ترجع إلى العمر . وقيل : المعنى وما يعمر من معمر أي هرم ، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب ؛ أي بقضاء من الله جل وعز . روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس ، قال : وهو أشبهها بظاهر التنزيل . وروي نحوه عن ابن عباس . فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر ، ويجوز أن تكون لغير المعمر .
قوله تعالى : " إن ذلك على الله يسير " أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه . وقراءة العامة " ينقص " بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب " ينقص " بفتح الياء وضم القاف ، أي لا ينقص من عمره شيء . يقال : نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره ، وزاد بنفسه وزاده غيره ، متعد ولازم . وقرأ الأعرج والزهري " من عمْره " بتخفيف الميم وضمها الباقون . وهما لغتان مثل السحْق والسحُق . و " يسير " أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب . والفضل منه : يسر ولو سميت به إنسانا انصرف ؛ لأنه فعيل .
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق ، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل ، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه { والله الذي أرسل الرياح } الذي هو من آيات الآفاق ، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح ، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر : { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال ؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال : { خلقكم من تراب } أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه ، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً ، وإليه الإشارة بقوله : { ثم } أي بعد ذلك في الزمان والرتبة خلقكم { من نطفة } أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار { ثم جعلكم أزواجاً } بين ذكور وإناث ، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع ، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة .
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع ، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته : { وما تحمل } أي في البطن بالحبل { من أنثى } دالاً بالجار على كمال الاستغراق . ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال : { ولا تضع } أي حملاً { إلا } مصحوباً { بعلمه } في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه ، فلا يكون إلا بقدرته ، فما شاء أتمه ، وما شاء أخرجه .
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة ، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه ، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد : { وما يعمر من معمر } أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً ، قال قتادة : ستين ، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه { ولا ينقص من عمره } أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره ، فالمعمر المذكور المراد به الفعل ، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام ، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى ، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر .
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال : { إلا في كتاب } مكتوب فيه " عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا ، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله " .
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ، ولا يحصره الحد ، فكان في عداد ما ينكره الجهلة ، قال مؤكداً لسهولته : { إن ذلك } أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل { على الله } أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده ، خاصة { يسير * }
قوله : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } ذلك برهان آخر من الله على بالغ قدرته وعظيم صفته وجزيل نعمته على العباد . فقد خلق الله الإنسان من تراب وهو أصل أبيه آدم ، خلقه الله من طين ثم أمر ملائكته بالسجود له تعظيما وتكريما { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } وهي الماء قل أو كثر{[3850]} ، وهي مزيج مختلط من ماء الرجل والمرأة ليتخلَّق منهما الولد ذكرا كان أو أنثى .
قوله : { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } أي زوَّج بعضكم بعضا ، أو جعلكم أصنافا ، أي ذكرانا وإناثا لتستوي الحياة على وجه الأرض فتظل عامرة بأهلها من الأناسي حتى يأتي وعدُ الله بزوال الدنيا .
قوله : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي يزوج الذكران من الإناث فيتناسلان بعلم الله بعد إلقاء النطف في الأرحام ، ثم حصول الحمل ، ثم التناسل ، كل ذلك بعلم ؛ فهو سبحانه لا يفوته من ذلك شيء ولا يعزب عن علمه بذلك أيما خبر .
قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } سماه معمرا بما هو صائر إليه . والمعنى : أن من قضيت له أن يعمَّر حتى يدركه الكبر ، أو يعمَّر أنقص من ذلك ، فكل بالغ أجله الذي قضي له ، وكل ذلك في كتاب . فلا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب وهو اللوح المحفوظ ؛ إذ هو مكتوب عند الله ، قد علمهُ وأحصاه .
قوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } العلم بالآجال والأعمار ، ما طال منها ومالا قُصر ، وإحصاء ذلك كله على الخلْق سهل على الله غير متعذر عليه{[3851]} .