فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (11)

صضأ { وَاللهُ خَلَقَكُم } ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم { مِّن تُرَابٍ } وقال قتادة : يعني آدم والتقدير على هذا خلق أباكم الأول وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب .

{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أخرجها من ظهر أبيكم { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } أي زوج بعضكم ببعض فالذكر زوج الأنثى أو جعلكم أصنافا ذكرانا وإناثا { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج شيء من علمه وتدبيره ، ومن زائدة .

{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } قرئ ينقص مبنيا للمفعول وللفاعل ومن عمره بضم الميم وبسكونها والمعنى ما يطول عمر أحد ولا ينقص من عمره إلا في اللوح المحفوظ ، قال الفراء : يريد آخر غير الأول فكنى عنه بالضمير ، كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول كأنه قال : ولا ينقص من عمر معمر فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه ، أي نصف آخر ، قيل : إنما سمى معمرا باعتبار مصيره إليه والمعنى ما يمد في عمر أحد ولا ينقص من عمر أحد لكن لا على معنى : ولا ينقص من عمره بعد كونه زائدا ، بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء ناقصا إلا وهو في كتاب . قال سعيد بن جبير وما يعمر من معمر إلا كتب عمره كم هو سنة ؟ كم هو شهرا ؟ كم هو يوما ؟ كم هو ساعة ؟ ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة ، نقص من عمره يوم ، نقص من عمره شهر ، نقص من عمره سنة ، حتى يستوفي أجله فما مضى من أجله فهو النقصان ، وما يستقبل فهو الذي يعمره .

قال النسفي : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد ، وعليه كلام الناس يقولون : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق ، أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره ، فذلك نقصان عمره انتهى . وقال قتادة : المعمر من بلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين ، وقيل المعنى : أن الله كتب عمر الإنسان كذا أن أطاع ودونه إن عصى ، فأيهما بلغ فهو في كتاب ، والضمير على هذا يرجع إلى معمر ، وقيل المعنى : وما يعمر من معمر إلى الهرم ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب الله ، أي بقضاء الله قاله الضحاك ، واختاره النحاس قال وهو أشبهها بظاهر التنزل ، والأولى أن يقال : ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل ، وأسباب تقتضي التقصير فمن أسباب التطويل ما ورد في صلة الرحم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله ( من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، أي يؤخر في عمره فليصل رحمه ) . ونحو ذلك .

ومن أسباب التقصير : الاستكثار من معاصي الله سبحانه فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلا سبعين سنة فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان والكل في كتاب مبين ، فلا تخالف بين هذه الآية وبين قوله سبحانه { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة لا يستقدمون } ويؤيد هذا قوله سبحانه : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } ، وقد قدمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحا وبيانا .

قال ابن عباس في الآية يقول : ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه ، وليس أحد قضيت عليه أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له فذلك قوله : ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، يقول : كل ذلك في كتاب عنده .

وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة ، فيقول أي رب أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ) .

وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال قالت أم حبيبة : اللهم أمتعني بزوجي النبي ، وبأبي سفيان ، وبأخي معاوية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنك سألت الله لآجال مضروبة ، وأيام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، ولن يعجل الله شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل ) . وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء ، وأنه يعتلج هو والقضاء ، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر فلا معارضة بين الأدلة كما قدمنا .

{ إِنَّ ذَلِكَ } أي ما سبق من الخلق وما بعده { عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } لا يصعب عليه منه شيء ، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل ، ولا كبير ولا صغير .