روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (11)

{ والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداءً منه في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقاً إجمالياً { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم خلقكم منها خلقاً تفصيلياً { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } أي أصنافاً ذكراناً وإناثاً كما قال سبحانه : { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } [ الشورى : 0 5 ] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضاً { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظاً من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة ، وجعله حالاً من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمراً باعتبار الأول نحو { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } [ يوسف : 36 ] ومن قتل قتيلاً على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل ، وجوز أن يقال لأن { يُعَمَّرُ } مضارع فيقتضي أن لا يكون معمراً بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر ، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى : { وَلاَ يُنقَصُ } الخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصاً من عمره ، وقيل : عليه هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره . أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمراً باعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمآل ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصاً فهو نظير قولهم ضيق فم الركية ، وقال آخرون : الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمراً طال أو قصر ؛ ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصاً واحداً والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلاً يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي الخ وروي هذا عن ابن عباس .

وابن جبير . وأبي مالك وحسان بن عطية . والسدي ، وقيل بمعناه :

حياتك أنفاس تعد فكلما *** مضى نفس منها انتقصت به جزأ

وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمراً أي مزاداً في عمره إذا عمل عملاً وينقص من عمره إذا لم يعمله ، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضاً وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر .

وقال كعب : لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله ، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية : هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء ، ومن العجيب قول ابن كمال : النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال : فافهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار » اه . وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم . والنسائي . وابن أبي شيبة . وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة وقد قالت : اللهم امتعني بزوجي النبي صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ، سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه اه .

وقال بعضهم : يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولاً بتقدير آخر ولا حجر على الله تعالى ، ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم » وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت » وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد ، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر

" الصدقة تزيد في العمر " ويتضح أمر فائدة الدعاء ، وما يحكي عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه ، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه ، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب ، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول ، وخبر " الصدقة تزيد في العمر " قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات ، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية ، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلاً ففائدته كفائدتها ، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر .

وقيل الضمير للمعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره ، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل :

وبضدها تتبين الأشياء *** فيكون عائداً على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصاً .

وقرأ الحسن . وابن سيرين . وعيسى { وَلاَ يُنقَصُ } بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو { عُمُرِهِ } و { مِنْ } زائدة في الفاعل وإن كان متعدياً جاز كونه ضمير الله تعالى . وقرأ الأعرج { مِنْ عُمُرِهِ } بسكون الميم { إِلاَّ في كتاب } عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج ابن المنذر . وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها ، وجوز أيضاً أن يراد به علم الله عز وجل ، وذكر في ربط الآيات إن قوله تعالى : { والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } الخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه : { مَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى } الخ للعلم الشامل وقوله عز وجل : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } الخ لإثبات القضاء والقدر ، والمعنى وما يعمر منكم خطاباً لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه { وَمَا يُعَمَّرُ } الخ { إِنَّ ذلك } أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محاراً للعقول والأفهام { عَلَى الله يَسِيرٌ } لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور .

ومن باب الإشارة : { والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها وأكثفها { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وفيها نوع ما من اللطافة { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } [ فاطر : 11 ] إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلى وهو مبدأ استعداد الوقوف على عوالم الغيب والشهادة