في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (11)

9

ثم يجيء مشهد النشأة الأولى للإنسان بعد الكلام عن نشأة الحياة كلها بالماء . ويذكر ما يلابس تلك النشأة من حمل في البطون ؛ ومن عمر طويل وعمر قصير . وكله في علم الله المكنون .

( والله خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .

والإشارة إلى النشأة الأولى من التراب تتردد كثيراً في القرآن ؛ وكذلك الإشارة إلى أول مراحل الحمل : النطفة . . والتراب عنصر لا حياة فيه ، والنطفة عنصر فيه الحياة . والمعجزة الأولى هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت ، ولا كيف تلبست بالعنصر الأول . وما يزال هذا سراً مغلقاً على البشر ؛ وهو حقيقة قائمة مشهودة ، لا مفر من مواجهتها والاعتراف بها . ودلالتها على الخالق المحيي القدير دلالة لا يمكن دفعها ولا المماحكة فيها .

هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان . وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة . وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعاً .

والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين ، حين يتميز الذكر من الأنثى ، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية : ( ثم جعلكم أزواجاً ) . . سواء كان المقصود جعلكم ذكراً وأنثى وأنتم أجنة ، أو كان المقصود جعلكم أزواجاً بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى . . هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة ! فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد ، الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف ? وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة ?

إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ؛ وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة . ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقاً واحداً على هذا النحو العجيب ؛ ومخلوقاً متميزاً من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه ، بل من أقرب الناس إليه ، بحيث لا يتماثل أبداً مخلوقان اثنان . . وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه ! . . ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجاً ، قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة ، تسير في ذات المراحل ، دون انحراف . . إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب . ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيراً عن تلك الخارقة المجهولة السر ؛ بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار ! لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها ، ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها !

وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم الله [ كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ ] صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعاً :

( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) .

والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات . وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها ، فالبيضة حمل من نوع خاص . جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم ؛ بل ينزل بيضة ، ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنيناً كاملاً ثم يفقس ويتابع نموه العادي .

وعلم الله على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف ! ! !

وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير - كما قلنا في سورة سبأ - فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن . وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد .

ومثلها الحديث عن العمر في الآية ذاتها :

( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) . .

فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على اختلاف في الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والمواطن والأزمنة ؛ ثم يتصور أن كل فرد من أفرادهذا الحشد - الذي لا يمكن حصره ، ولا يعلم إلا خالقه عدده - يعمر فيطول عمره ، أو ينقص من عمره فيقصر وفق قدر مقدور ، ووفق علم متعلق بهذا الفرد ، متابع له ، عمر أم لم يعمر .

بل متعلق بكل جزء من كل فرد . يعمر أو ينقص من عمره . فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو تذبل أو تسقط عن قريب . وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح . وهذا القرن من ذلك الحيوان يبقى طويلاً أو يتحطم في صراع . وهذه العين في ذلك الإنسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق تقدير معلوم .

كل ذلك ( في كتاب ) . . من علم الله الشامل الدقيق . وأن ذلك لا يكلف جهداً ولا عسراً : ( إن ذلك على الله يسير ) . .

إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه ؛ ثم يتصور ما وراءه . . إنه لأمر عجيب جد عجيب . . وإنه لاتجاه إلى حقيقة لا يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو . واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير مألوف البشر كذلك . وإنما هو التوجيه الإلهي الخاص إلى هذا الأمر العجيب .

والتعمير يكون بطول الأجل وعد الأعوام ؛ كما يكون بالبركة في العمر ، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً ، واحتشاده بالمشاعر والحركات والأعمال والآثار . وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ؛ أو نزع البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ .

ورب ساعة تعدل عمراً بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ، وبما يتم فيها من أعمال وآثار . ورب عام يمر خاوياً فارغاً لا حساب له في ميزان الحياة ، ولا وزن له عند الله !

وكل ذلك في كتاب . . كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي لا يعرف حدوده إلا الله . .

والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد . . كل منها يعمر أو ينقص من عمره . والنص يشمله .

بل إن الأشياء لكالأحياء . وإني لأتصور الصخرة المعمرة ، والكهف المعمر ، والنهر المعمر ، والصخرة التي ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ؛ والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ؛ والنهر الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد !

ومن الأشياء ما تصنعه يد الإنسان . البناء المعمر أو القصير العمر . والجهاز المعمر أو قصير العمر . والثوب المعمر أو قصير العمر . . وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان .

وكلها من أمر الله العليم الخبير . .

وإن تصور الأمر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد ، وأسلوب جديد . وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل . وهو حيثما تلفت وجد يد الله . ووجد عين الله . ووجد عناية الله ، ووجد قدرة الله ، متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا الوجود .

وهكذا يصنع القرآن القلوب !